تتناول هذه الورقة تاريخ المدينة الحديثة في الخليج في عصر النفط، وتحديداً من منطلق علاقتها مع محيطها البيئي.[1] وستجادل الورقة أن المدينة الحديثة في الخليج تمحورت حول النفط بشكل رئيسي واستثنائي، أكان من ناحية تمويلها أو أنماط استهلاكها بل وحتى توفير مياهها وطاقتها، حتى أضحى النفط متغلغلاً في كل جانب من المدينة ومن حياة البشر فيها، مما أدى إلى انفصال كبير بين حياة البشر في المدينة والمحيط البيئي الأوسع الذي كان يلعب دوراً محورياً في تحديد نمط الحياة في الأزمنة السابقة. وبذلك أصبحت الحياة في الخليج ترتبط ارتباطاً عضوياً لا بمحطيها البيئي الأوسع، بل بالنفط أساساً، مما يثير تساؤلات حول إمكانية استدامة هذه المدن اقتصادياً وبيئياً على مدى المستقبل المتوسط والبعيد، وخصوصاً في عصر ما بعد النفط.

 

مركزية المدينة في الخليج

 لعبت المدينة دوراً رئيسياً في النشاط الاقتصادي في دول الخليج العربية خلال القرن التاسع عشر والعقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، إذ كانت المدينة هي مركز صناعة الغوص والتجارة البحرية على ضفاف الخليج، التي نمت بشكل مطرد مع صعود "عصر رأس المال" العالمي خلال هذه الفترة.[2] وقد نمت هذه المدن أساساً بشكل عضوي (organic growth) دون تخطيط مركزي، بحيث بنيت أساساً لتسهيل حركة البشر على الأقدام بين ضواحيها. إذن كان الإنسان هو الوحدة الرئيسية التي بنيت من أجلها وحولها المدن، وشكل المشي على الأقدام الطريقة الأساسية للتنقل فيما بين ضواحي المدينة. ونتج عن ذلك الجغرافيا المعمارية للمدن التاريخية المعروفة في الخليج، والتي تميزت بحاراتها المتقاربة وشوارعها الضيقة الملاصقة للبحر.

ولم تكن المدينة هي النمط الاقتصادي الوحيد لاستعمال الأراضي في دول مجلس التعاون، إذ تواجدت القرى والواحات الزراعية، بالإضافة إلى نمط حياة البدو الرحل على امتداد "ديرة" كل قبيلة. وقد تفاوتت أهمية ومركزية المدينة فيما بين هذه الأنماط المختلفة من استعمال الأرض من منطقة إلى أخرى في عصر ما قبل النفط. ففي الكويت كمثال، كانت المدينة هي المركز الأساسي للحياة الاقتصادية والسياسية التي عاش فيها أكثر من ثلثي السكان تحت نفوذ الحاكم، بالإضافة إلى تواجد قوي للقبائل الرحل في المناطق الصحراوية المحيطة بالمدينة، وكانت الحال مماثلة على ساحل الإمارات. إلا أنه من المهم التنويه بأنه كان هناك تلاقح متواصل فيما بين البدو الرحل والقبائل والمدينة، وقد نجد في قطر تجسيداً رئيسياً لهذه الحالة، بحيث لم تكن الفواصل ما بين الفئات الثلاث بتلك الصلابة، وكثيراً ما عمل بعض البدو وعاشت الكثير من القبائل في المدن وفي مهنة الغوص.

 

 ونفس الأمر ينطبق على علاقة الريف الزراعي وساكنيه مع المدن. ففي البحرين، عاش حوالي ثلثي السكان في المدن في بداية القرن العشرين (أساساً في مدينتي المحرق والمنامة)، فيما انتشر الباقي على مدى القرى الزراعية في الريف، مع تواجد تواصل مستمر بين الاثنين. [3]أما في المنطقة الشرقية من السعودية (الأحساء والقطيف)، فقد انقسم السكان الحضر بشكل متوازٍ تقريباً بين سكان المدن (كالإحساء والقطيف والمبرز) في مقابل سكان المناطق الريفية الزراعية. وقد شكل السكان الحضر القاطنين في المدن والريف الزراعي حوالي 60% من سكان المنطقة، فيما كان البقية من البدو الرحل. وقد كانت سلطنة عمان هي الاستثناء البارز فيما بين الخليج، إذ من بين إجمالي سكان بلغ حوالي نصف مليون، تشكل حوالي ثلاثين ألف منهم من الرحل،  وخمسة وعشرين ألف من سكان المدينتين الرئيسيتين مطرح ومسقط، فيما كانت البقية من ساكني الريف والقرى الزراعية والساحلية، وهم الذين شكلوا الغالبية العظمى من سكان السلطنة.[4] ومن المهم عدم معاملة هذه الخانات والأرقام كتقسيمات صلبة، إذ كان هناك الكثير من التمازج والتداخل فيما بين سكان هذه الأنماط المختلفة من استعمالات الأراضي.

إذن، لطالما لعبت المدينة دوراً محورياً في حياة سكان دول مجلس التعاون، وفي تعاطي السكان مع أنماط استعمال الأرض الأخرى من حياة الترحال والزراعة. إلا أن عصر النفط جاء ليدشن مبدأ أن تصبح المدينة هي النمط الحكري والأساسي للحياة في دول المجلس، حيث طغت المدينة على أنماط الحياة الأخرى إلى أن اندثرت تلك الأخيرة أو كادت.

ومع التوسع السكاني المتصاعد في دول مجلس التعاون، وخصوصاً منذ طفرة السبعينات النفطية، تعدت نسبة السكان التي تعيش في المدن الثلاثة أرباع في كل من دول المجلس، ووصلت هذه النسبة إلى 99% في قطر والكويت. وحتى الأماكن التي لم تكن رسمياً جزءاً من المدن، فقد أصبحت فعلياً امتداداً لضواحيها، كما كان حال القرى في البحرين، بحيث تحولت البحرين فعلياً إلى مدينة واحدة متصلة على امتداد الأرخبيل. أما أنماط استعمال الأرض الأخرى من حياة الرحل والزراعة فتقلصت بشكل كبير، وفعلياً فقد اندثرت الأولى منها. وهكذا، كان على الناس الذين عاش أجدادهم في أنماط الحياة هذه لمئات من السنين التأقلم مع حياة المدن في غضون سنوات معدودة.

 

جدول  1.2.1: نسبة السكان الذين يعيشون في المدن


*source: United Nations Population Division, World Urbanization Prospects, 2014 revision, < https://esa.un.org/unpd/wup/CD-ROM/ >.

 

 ولم تكن المدن التي برزت في دول مجلس التعاون في عصر النفط مبنية على نفس نمط المدن السابقة، بل أسست لتغير جذري في نمط الحياة، على الرغم من تبقي بعض الصلات بين الماضي والحاضر. وكان لنوع جديد وفريد من نوعه من المدن أن يكتسح نمط استعمال الأرض في المنطقة، لنا أن نسميه بنمط مدن الحداثة النفطية.

وهذا المصطلح: "مدن الحداثة النفطية"، تم اختياره بعناية لنختزل فيه الخصائص الرئيسية التالية. أولاً: مصطلح المدينة، لأن نمط استعمال الأرض للغالبية من السكان تجسد أساساً في شكل المدينة. ونضيف مصطلح الحداثة لأن هذه المدن اعتمدت في أسس حياتها واستدامتها بشكل كبير على عوامل الحداثة، إذ أنها تستعمل تكنولوجيا الحداثة لتوفير أغلب حاجاتها بما فيها الماء والغذاء والطاقة. وكما سنبين، فبدون هذه التكنولوجيا لما كان بالإمكان بناء هذه المدن كما جرى ولا يمكن ضمان استمراريتها في المستقبل.

أخيراً وليس آخراً، فهذه الحداثة من نوع خاص، فهي نفطية. إذ يلعب النفط دوراً محورياً في صلب هذه المدن. فكان النفط هو أساس مصدر المال الذي مول البناء والاستيراد والاقتصاد في المدينة، كما لعبت صناعة النفط دوراً رئيسياً في توظيف المواطنين تاريخياً، وبذلك فقد لعب إنتاج النفط وبيعه دوراً رئيسياً في حياة مدن الخليج قد تناولناه بتعمق في دراسات سابقة.[5] إلا أننا في هذه الورقة سنركز على دور محوري ثالث للنفط، ألا وهو الاستهلاك. أي أننا سنركز على دور النفط كمادة ذات قيمة استعمالية في حياة ساكني المنطقة، بحيث نتطرق إلى استعمالات النفط في حياة واقتصاديات دول مجلس التعاون. فـاستهلاك النفط كمادة (بما في ذلك الغاز الطبيعي) هو الذي مكنها، كما هو الحال في دول أخرى، من بناء الكثير من مقومات الاقتصاد، إذ تم استعمال النفط لتوفير المحروقات في السيارات، والإسفلت في الشوارع، وتزويد الطاقة للكهرباء والماء. وبهذا، فإن النفط لعب دوراً فريداً في حياة مدن الخليج، حيث أن إنتاجه واستهلاكه والإيرادات المتدفقة من بيعه في الخارج كانت العوامل التي لعبت الدور الرئيسي في تشكيل هذه المدن ونمط حياتها، وبهذا استحقت اسم مدن الحداثة النفطية.

وليتبين لنا الدور الرئيسي الذي يلعبه النفط (والغاز) في تشكيل حياة هذه المدن، لنا أن نرسم في مخيلتنا الأنشطة التي يقوم بها أي شخص في نصف ساعة في بداية يوم اعتيادي في مدن الخليج. ولنا أن نسمي بطل سردنا الافتراضي هذا "بوخالد". فبعد نوم هانئ تحت نسمات المكيف الباردة، يستيقظ بوخالد من النوم في تمام الساعة السادسة صباحاً ليتجهز للعمل. فيغتسل سريعاً تحت الماء الدافئ المتدفق من السخان، ومن ثم يلبس ثوبه وشماغه وحذائه. وبعدها يقوم بغلي الماء سريعاً لتجهيز شايه الذي يتناوله مع بعض القطع من الفواكه. ثم يسرع إلى سيارته، التي يقودها على الخط السريع في طريقه إلى العمل، والذي قد يكون في إحدى شركات البتروكيماويات التي بدورها تستهلك قدراً كبيراً من الغاز.

يلعب النفط دوراً محورياً في تمكين كل من الخطوات البديهية السابقة في حياة بوخالد من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً. فالنفط (والغاز) هو الذي يولد الطاقة التي تسمح بتشغيل المكيف وسخان الماء وإبريق الشاي. وهو الذي يولد الطاقة التي تسمح بتحلية المياه المستعملة للاغتسال والشرب. وهو المادة الخام التي تستعمل في إنتاج مبيدات الحشرات المستخدمة في زراعة الفواكه، التي تم جلبها إلى الخليج على متن سفن تعتمد محركاتها على حرق النفط، بالإضافة إلى أن إنتاج الثياب والشماغ والحذاء يعتمد على البتروكيماويات المصنعة من النفط. وبالتأكيد فإن الجازولين يوفر الطاقة التي تسمح بتحريك السيارة، بالإضافة إلى صناعة الإسفلت من النفط الذي يتم عبره صف الشوارع. وغني عن القول أن المصروفات التي اشترت كل هذه السلع تم تمويلها أساساً عبر النفط.

وبذلك، فإن النفط يطغى على نمط حياة المدن في الخليج حتى أدق تفاصيلها، وكأنه قد تسرب إلى دمائها، بل وكأنه أصبح دمها الذي يسري في عروقها ويغذي بقية جوانب حياتها.[6] وبالطبع، فإن هذا ينطبق على الكثير من مدن العالم وليس فقط على دول الخليج، إلا أن كثافة وحِدّة استعمال النفط في أغلب جوانب الحياة في مدن الخليج يجعلها متميزة على مستوى العالم.

ومن المهم أن نتعمق في دور النفط (والغاز) المحوري في توفير الطاقة والمياه في دول مجلس التعاون، نظراً للأهمية الرئيسية لهذين الموردين في تمكين الحياة في الخليج. وإذا ما بدأنا بالنظر إلى الطاقة، فإن غالبية الكهرباء في دول مجلس التعاون يتم إنتاجها عن طريق حرق الغاز الطبيعي (على الرغم من استخدام النفط والجازولين أيضاً، خاصة في السعودية). وعلى عكس حالة النفط الخام، فإن غالبية الغاز في الخليج يتم استعماله للاستهلاك الداخلي بدلاً من تصديره للحصول على النقد (فيما عدى حالة قطر وعمان وإلى حد أقل الإمارات). أي أن قيمة الغاز الأساسية لدول الخليج تكمن في قيمته الاستعمالية (use-value) بدلاً من قيمته التبادلية (exchange-value) كمصدر للنقد، على عكس الحال مع النفط السائل.

ومع نمو سكان الخليج من وافدين ومواطنين بشكل مطرد على مدى الخمسين سنة الماضية، نمت أيضاً كمية الاستهلاك للطاقة بشكل موسع. ففي الكويت كمثال، نمى إنتاج الطاقة من 0.087 مليار كيلوواط في الساعة عام 1956 إلى 57.1 مليار كيلوواط عام 2010، أي بمعدل 12.8% سنوياً. ولم يكن هذا النمو في استهلاك الطاقة نمواً عددياً فقط يرافق نسبة النمو في عدد السكان، بل نمت كثافة الاستهلاك الفردية، إذ أضحت دول الخليج أكثر دول العالم استهلاكاً للطاقة لكل فرد.

 

شكل 1.2.1: إنتاج الطاقة في الكويت (بليون كيلو واط / ساعة)

*المصدر: أجهزة الإحصاء الرسمية.

 

شكل 1.2.2: متوسط نصيب الفرد من استهلاك الطاقة الكهربائية لدول العالم 2010 (كيلو واط / ساعة)

 

*المصدر: البنك الدولي

 

قصة مماثلة تنطبق على المياه. فنظراً لشح المياه في دول مجلس التعاون وعدم تواجد مياه عذبة جارية على مدى السنة في شكل أنهار، اعتمدت دول الخليج أساساً على عملية التحلية (water desalination) لتزويدها بالمياه، بالإضافة إلى سحب المياه الجوفية ومعالجة المياه المستعملة وتكريرها للزراعة. والتحلية تعتبر مثالاً جوهرياً على أهمية تكنولوجيا الحداثة التي مكنت نمط حياة المدن في المنطقة. إذ أن التحلية تعتمد على أخذ مياه الخليج وسحب الملوحة منها عن طريق تكنولوجيا التناضح العكسي (reverse osmosis). وتعتمد عملية التحلية هذه على استهلاك مكثف للطاقة، بحيث لم يكن لها أن تتواجد في عصر ما قبل النفط. وبهذا أصبح وكأنه بالإمكان تحويل النفط إلى ماء.

وبناء على هذه التكنولوجيا، تفرخت وتكاثرت مصانع التحلية بشكل متسارع على ضفاف الخليج، تلبية للطلب والاستهلاك المتصاعد للمياه. ومن المهم التنويه بأنه على الرغم من كونها أكبر مستهلك لمصانع التحلية في العالم، فما زالت كل دول الخليج عاجزة عن بناء مصنع واحدة للتحلية بنفسها، بل إنها تعتمد اعتماداً كلياً على تكنولوجيا ومهارات مستوردة لبنائها. وكما هو الحال مع الطاقة، فقد أصبحت دول الخليج من أعلى دول العالم استهلاكاً للمياه لكل شخص، حيث تعدت مستويات استهلاكها الفردية تلك التي في دول تتميز بتوفر كميات ضخمة من مصادر المياه العذبة كالمملكة المتحدة، على الرغم من كون الخليج من أفقر الأماكن في العالم من ناحية مصادر المياه العذبة الطبيعية. ولكن لما كان توفر النفط يعني توفر المياه في عصر الحداثة النفطية، ولما كانت دول الخليج غنية بالنفط، فقد أصبحت وكأنها غنية بالمياه.

 

شكل 1.2.3: مصادر المياه في دول مجلس التعاون عام 2010

*المصدر: مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الأمانة العامة (مركز المعلومات – إدارة الحصاء)- الكتاب الإحصائي للمياه في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية: الإصدار الثاني، 2010

 

 

شكل 1.2.4: معدل توفر المياه العذبة في دول مجلس التعاون وبعض دول العالم 2010 (متر مكعب / فرد / سنة)

*المصدر: البنك الدولي (إحصاءات المملكة المتحدة، النرويج، الولايات المتحدة الأمريكية، سنغافورة، كندا)- 2009 المنتدى العربي للبيئة والتنمية

 

شكل 1.2.5: انتاج المياه في الكويت 1950 - 2010

*المصدر: أجهزة الإحصاء الرسمية

 

أما من ناحية المأكل، فقد مهدت إيرادات النفط لاستيراد الغذاء بشكل موسع، حتى أصبحت دول الخليج أكثر دول العالم اعتماداً على الغذاء من خارج أراضيها وبنسبة تعدت 90%.[7] وبذلك تواصل المنوال بأن أصبحت دول الخليج أيضاً من أكثر دول عالم استهلاكاً للغذاء لكل فرد، وبعد أن كان سكان المنطقة تحت رحمة القحط والمجاعات في فترات سابقة من الزمن، أضحى سكانها في عصر النفط يعانون من أعلى نسب البدانة في العالم (أنظر الرسم البياني التالي). وأصبحت قضية تأمين مصادر الغذاء جزءاً من عناصر الأمن القومي لدول المجلس، حيث وصل الحال بدولها أن اشترت مساحات شاسعة من المزارع في دول أخرى في شتى بقاع الكرة الأرضية كطريقة لتأمين غذائها، حتى أدخلتها هذه المقتنيات الشاسعة من الأراضي الزراعية في المناطق الخارجة عن سيادتها في مصادمات مع مواطني هذه المناطق والناشطين المساندين لهم على مدى العالم.[8] وقد برزت أهمية تأمين واردات الغذاء في اقتصاديات دول مجلس التعاون بشكل فاقع خلال الأزمة بين قطر والرباعي عام 2017، حيث أضحت قضية تأمين خطوط الغذاء ذات أهمية قصوى لقطر خلال تداعيات الخصام السياسي نظراً لاعتمادها شبه الكلي على استيراده، حيث كان يأتي الكثير منه براً من السعودية.[9]

 

شكل 1.2.6: نسبة البدانة بين دول مجلس التعاون الخليجي هي الأعلى في العالم

*Source: World in Figures: The Economist

 

إذن، بدا وكأنه بإمكان النفط (والغاز) أن يروضا البيئة القاسية في دول الخليج العربية بشكل كلي. فبدا وكأنه تم القضاء على المشاكل الأزلية التي واجهت المنطقة من شح المياه والغذاء، كل ذلك عبر الطاقة والمال الذين يوفرهما النفط. بل بدا وكأنه بإمكان المواطن التحكم حتى في الجو عن طريق التكييف، حتى وصل الحال بأن بنت دبي مركزاً للتزلج على الثلج في وسط مناخها الصحراوي. ولذلك، فإن الطبيعة البيئية التي كانت طاردة للبشر سابقاً نظراً لشح المياه والغذاء وحرارة الجو، أصبح بالإمكان عبر التكنولوجيا في مدن الحداثة النفطية أن يتم ترويضها بحيث لم تعد البيئة الطبيعية هي أساس ما يحدد الحياة فيها، بل يأخذ مكانها النفط كالمحدد الرئيسي للحياة. ولما كان النفط متواجداً بكثرة، فقد أصبح بالإمكان أن يتواجد البشر بكثرة، وأضحى بإمكان هؤلاء البشر أن يستهلكوا بكثرة، وتوسعت بناء على ذلك مدن الخليج بشكل متضخم ومتسارع.

 

مدن السيارات والضواحي

وقد تجلى توسع مدن الحداثة النفطية في الخليج في شكل خاص من المدن اتخذت نمطاً مماثلاً لما يسمى بمدن "الحزام الشمسي" (sun belt cities) في أمريكا، على غرار هيوستون ولوس أنجلس. والخاصية الرئيسية التي ميزت هذه المدن هي كون الوحدة الرئيسية التي حددت نمط بناء المدينة هي السيارة. وبعد أن كانت المدن التاريخية في الخليج مبنية أساساً للبشر وللمشي كالوسيلة الأساسية للتنقل، فقد أضحت المدن الجديدة مبنية أساساً للسيارات كالوحدة الرئيسية للتنقل فيما بينها.

وهنا يجب أن نفهم أن مدن السيارات تمثل ظاهرة حديثة في عهد الإنسان، فالسيارة الحديثة لم يتم صنعها إلا في عام 1886 على يد كارل بنز (Karl Benz) في ألمانيا. ومع بداية القرن العشرين، كانت السيارات تبنى بشكل موسع في أوروبا وأمريكا، خصوصاً تحت إمرة هنري فورد، الذي أسس لبناء "النموذج تي" (Model T) في عام 1908، والذي وفر عبره عشرات الآلاف من السيارات بأسعار سمحت للكثير من عامة الشعب اقتنائها.  وقد كانت أول مدينة بنيت أساساً على مبدأ السيارات هي لوس أنجلس في كاليفورنيا،[10] وسرعان ما تبعتها مدن أخرى، وقد تكون هيوستون في تكساس هي أشهر تجل لها. وليس بالغريب أن تكون هاتين المدينتين أيضاً هما المدينتان الأغزر إنتاجاً للنفط في تاريخ الولايات المتحدة.

وكان للسيارات دور محوري في "إبادة المساحات عن طريق الزمن"[11] في القرن العشرين، إذ أصبح بإمكان من هو داخل هذه السيارة أن يتخطى مسافات هائلة في غضون دقائق معدودة، واختصار رحلات كانت لتأخذ عدة أيام فيما سبق، في أقل من ساعة.  وقد يكون أفضل مثال على ذلك هو مسافة سفر 81 كيلومتر[12] التي حددها مشايخ الدين كأقل مسافة يجوز عندها عدم الصيام، والتي كانت مسافة بضعة أيام من السفر على دابة في وقت الرسول الكريم، ولم تتغير هذه الفترة بشكل كبير حتى بدايات القرن العشرين. إلا أنه ومع مجيء السيارات، فقد أصبح بالإمكان اجتياز هذه المسافة في أقل من ساعة، بل إن بعض الناس يقطعون هذه المسافة كل يوم خلال ذهابهم وإيابهم من العمل.

ليس هذا فقط، بل إن السيارة فعلياً "خصخصت" (privatized) النقل. إذ كان نمط النقل السائد في مدن أوروبا الرئيسية في عصر الفحم قبل النفط هو النقل العام، بما فيه القطارات البخارية والـ"ترام" (tram) الكهربائي. ولكن السيارة وفرت إمكانية أن تكون لكل شخص مركبته الخاصة، يختارها ويعتني بها كيفما شاء، ويستقلها إلى أي مكان متى أراد. إذن أصبحت السيارات وكأنها مستودع للحرية الشخصية. ولك أن تسأل أي شخص في الخليج فسيقول لك أن اليوم الذي حصل فيه على رخصة القيادة كان يوماً تاريخياً ومفصلياً في حياته لا توصف سعادته. إذ أنه أصبح الآن شخصاً مستقلاً يستطيع أن يتحكم بحياته بنفسه، والشخص الذي لا يمكن له السياقة أو ليس لديه سائق، كحالة كبار السن والأطفال بالإضافة إلى النساء في السعودية حتى عام 2017، فإن حريته مقيدة، بحيث لا يستطيع التوجه إلى السوق والدراسة والعمل وغيرها من أمور الحياة من غير الاعتماد على شخص آخر. ولذلك، فقد أضحت السيارات ليست فقط مفتاحاً للحرية، بل أيضاً مقيدة لمن لا يمتلكها، إذ أن قدرته على التنقل في أنحاء مدينة بنيت أساساً للسيارات محدودة جداً. وبذلك، أصبح الإنسان وكأنه شخص ناقص بدون السيارة، حيث عليه أن يصطحب معه طفلاً كبيراً إلى أي مكان يقصده، يحتاج أن يبحث عن موقف يركنه فيه، وأن يطعمه البنزين، وأن يغسله وينظفه، ويقوم بصيانته دورياً. وأضحت مكانة وهوية وشخصية الفرد الاجتماعية تعرَّف بنوعية وفخامة سيارته. وليس هذا بمستغرب، فالمدينة وشكلها وتصميمها والحياة فيها عموماً أصبحت بشكل كبير تتمحور حول السيارة.

 

شكل 1.2.7: تطور الطرق المعبدة في السعودية والكويت 1950 – 2010 (ألف كيلو متر)

*المصدر: أجهزة الإحصاء الرسمية

 

شكل 1.2.8: تطور عدد السيارات المسجلة في السعودية والكويت 1955 – 2015 (بالملايين)

 

*المصدر: أجهزة الإحصاء الرسمية

 

وبذلك، أصبحت السيارة تتحكم في حياة البشر في مدن الحداثة النفطية، بحيث أضحى الوقت والجهد والمال المنفق على السيارة ونوعها وقيادتها وإيجاد مواقف لها يأخذ حيزاً كبيراً من حياة كل شخص، وكأنها جزء أساسي من العائلة يجب الاعتناء به. بل إن قيادة السيارة أصبحت هي القاتل الرئيسي للبشر في دول مجلس التعاون، إذ وصل عدد الوفيات في حوادث السيارات في السعودية فقط إلى أكثر من سبعة آلاف، وهو عشر مرات عدد الوفيات في بريطانيا التي يبلغ عدد سكانها ضعفي عدد سكان المملكة.[13] هذا عوضاً عن ملايين الساعات والجهد والأعصاب المحروقة المصاحبة لها، والتي يصرفها سكان المنطقة في سبيل مسايرة الشوارع وازدحامها كل يوم. بل إن السيارة أصبحت الوحدة الأساسية التي تقرر شكل المحيط الذي يعيش في الناس. فأضحى الجزء الرئيسي من المدينة موجهاً نحو توفير مواقف وشوارع للسيارات، بل إن السيارة تقرر أين يزرع الشجر. فالأشجار التي تزرع على الشوارع لا غاية منها سوى التجميل وإمتاع ناظري سائق السيارة لثوان معدودة أثناء مروره بها. وهكذا أصبح حتى النخل ليس هدفه الثمر، أو التنزه، أو إيواء الكائنات، بل تمتيع أنظار المارين بالسيارة. أي أضحت مناظر المدينة وشكلها الجمالي فرجة (spectacle) موجهة نحو السيارات وسائقيها. وبذلك أصبحت المدينة لا غابة إسمنتية (concrete jungle) وحسب، بل بالأحرى غابة إسفلتية (asphalt jungle)، حيث ملك الغابة هو السيارة.

أما الخاصية الأساسية الثانية التي ميزت هذه المدن فكانت انتشار مبدأ مدن الفلل في الضواحي (suburban cities)، والتي ظهرت لأول مرة أيضاً في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين. فمع بروز السيارة، ظهرت إمكانية أن يعيش الشخص عدة كيلومترات بعيداً من مكان عمله، في بيت يتسع لاستيعاب السيارات التي سيستعملها هو وأهله في التنقل من وإلى وعبر المدينة. وإن كان دخل الشخص يسمح، فلماذا لا يتم صرف جزء كبير منه على بناء سكن واسع له؟ فعلى الرغم من أن المساكن بهذا الحجم كانت في العصور السابقة تقتصر فقط على الطبقات ذات الثراء الفاحش نظراً لحاجتها إلى جيش من عمال الخدمة المنزلية لتنظيفها وتشغيلها والاعتناء بها، فإن التكنولوجيا والمنتجات الجديدة في عصر النفط (وقد اعتمدت إجمالاً على النفط في تصنيعها وتشغيلها) سمحت باستبدال قوة العمل هذه بالآلات. فمع التوسع في إنتاج آلات غسيل الملابس والأطباق، والمكنسة الهوائية (vacuum)، وأدوات المطبخ من أفران وثلاجات بشكل تجاري، وارتفاع دخل أغلب العمال بشكل يسمح لهم بشرائها، أصبحت بيوت "الفلل" ذات الحجم الموسع في متناول قسم كبير من أفراد الطبقة الوسطى في أمريكا، بينما كانت المساكن من هذا الحجم تقتصر في العصور السابقة على الطبقات العليا في المجتمعات البشرية.

وبذلك أصبح ما يعرف "بالحلم الأمريكي" (American dream) يتمحور حول اقتناء كل فرد لبيت كبير في الضواحي، وسيارة يتنقل بها الموظف من بيته إلى عمله، وشوارع ومواقف وبنية تحتية تمهد لهذه الحياة التي بنيت أساساً حول السيارة كالوحدة الأساسية للتنقل.[14] وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انتقلت عدوى هذا "الحلم الأمريكي" إلى أوروبا وبقية العالم. وقد لعب النفط دوراً أساسياً في إنتاج كل هذه السلع واستهلاكها، إذ تميزت هذه المدن باستهلاكها العالي للمادة السوداء، ليس فقط من ناحية السيارات، بل أيضاً من ناحية الآلات المستعملة في البيت، وأسفلت مواقف السيارات التي تحتاجها هذه البيوت، والشوارع التي تحتاجها هذه السيارات.

 

تاريخ نشوء مدن الحداثة النفطية في الخليج

سبق دخول السيارة إلى الخليج عصر النفط، إذ دخلت أولى السيارات إلى البحرين في عام 1910، إلا أن أعدادها كانت قليلة جداً حتى بدء تصدير النفط بشكل موسع.  ففي بداية عام 1933، أي في ثاني سنة منذ اكتشاف النفط في البحرين، تواجدت حوالي 100 سيارة في البلاد، الغالبية الساحقة منها مملوكة من قبل كبار موظفي شركة النفط الأجانب، بالإضافة إلى كبار التجار وأعضاء العائلة الحاكمة.[15] ولم تكن البحرين قد أضحت بعد مدينة مبنية أساساً للسيارات، وبالتأكيد لم تتحول بعد إلى مدينة فلل في الضواحي. 

وكان التحول الكبير الأول من هذه الناحية هو دخول شركات النفط التي غرست بذور مدن الحداثة النفطية. فمع تأسيس شركة النفط بابكو في البحرين، توافد على الجزيرة موظفون إنجليز وأمريكان بشكل مكثف، جالبين معهم لبنات ظاهرة الفلل في المجمعات السكنية المغلقة (gated compounds) التي اعتادت هذه الشركات على بنائها لموظفيها من ذوي البشرة البيضاء. ولما كانت الشركة التي أسست بابكو هي ستاندرد أوف كاليفورنيا (Standard of California – Socal) فلم يكن هذا النوع من العمران غريباً عليها. وكانت هذه البيوت التي بنيت في عوالي كبيرة الحجم نسبياً ومكيفة، وكان التنقل فيما بين هذه المجمعات وبقية الشركة يعتمد على السيارات، فتواجدت الشوارع وبرك السباحة والحدائق وكل الكماليات التي تعتبر جزءاً من ثقافة بيوت الضواحي. أما العمال العرب و"العزابية"، فكان سكنهم أساساً في بيوت السعف المعروفة بـ"البَرَسْتي"، بالإضافة إلى سكن الكثير منهم في المدن القديمة.

تبعت شركة النفط الكويتية خطى بابكو، حيث أسست أيضاً مدينة مغلقة مبنية على استخدام السيارات عرفت بـ"جمهورية الأحمدي"، ونفس الأمر انطبق على المجمعات السكنية أو الـ"كمبوندات" (compounds) التي بنيت في أرامكو. ولكن هذه المدن التابعة لشركات النفط كانت منعزلة عموماً عن باقي المجتمع. إلا أن عدوى مدن الحداثة النفطية سرعان ما انتقلت إلى حيث يعيش غالبية السكان. وأولى المدن التي مرت بهذه المرحلة كانت مدينة الكويت، وذلك عن عن طريق تدشين خطة التنمية في أوائل عقد الخمسينات كما بينا في الفصل السابع. فقامت الحكومة بتدمير المدينة التاريخية كلياً فيما عدى بعض المساجد، وثمنت أراضيها، ووزعت أموالها على المواطنين، وأعادت تخطيط المدينة القديمة والضواحي الجديدة، واستبدلتها ببناء مدينة "حديثة" في سرعة قياسية.

وأصبحت الكويت من أشهر الأمثلة ليس على مستوى الخليج فقط بل العالم ككل لما عرف بمدن "الحداثة العالية" (high modernism)،[16] حيث تميزت هذه المدن الحديثة عن المدن التاريخية بنمط نمو غير عضوي، بل تم تخطيطها كلياً ومن الصفر من قبل معماريين ومهندسين. فقد نمى توجه عام في العالم في القرن العشرين وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية بأن التخطيط والعلم والتكنولوجيا بإمكانها أن تحل أغلبية المشاكل الاجتماعية والتنموية التي تواجه البشر، بحيث أنه لو ترك العنان للخبراء ليحللوا المعادلات والقوانين التي تدير أمور البشر والطبيعة، لكان بإمكانهم أن يخططوا ويصمموا حياة البشر المثلى من الألف إلى الياء وأن يعرفوا كيفية التحكم بها بما فيه مصلحتهم. وقد طبق هذا التوجه في شتى مفاصل الحياة القابلة للإدارة من قبل الخبراء، بما في ذلك تصميم المباني، والاقتصاد الكلي، وطبعاً تصميم المدن. وهكذا نشأت مدن الحداثة العالية، التي تتميز بتصميمها حسب نظرة الخبير الذي يطل على المدينة من أعلى، ليتحكم فيها ويرسمها كيفما يرى حسب خبرته وعلمه.[17]

ومع تدفق الخبراء التكنوقراط على الخليج وجلبهم لآخر صيحات العلم والتكنولوجيا في ذلك الزمن، تمكنت دول المنطقة من أن تجني ثمار آخر التطورات التكنولوجية، أكان ذلك في شكل محطات تحلية المياه أو توريد الكهرباء أو تخطيط المدن أو الموانئ أو القواعد عسكرية. وبذلك أسست هذه المدن بناء على تكنولوجيا الحداثة هذه على الرغم من أن سكانها من المواطنين لم يعرفوا حتى أبجديات إنتاج هذه التكنولوجيا، إذ علينا أن نتذكر أنه لم تتواجد في الخليج حتى جامعة واحدة قبل ظهور النفط.

وقد تم تصميم مدينة الكويت بناء على أحدث أفكار الحداثة في تلك الفترة من قبل الشركة البريطانية Minoprio and Spencely Townplanners and Macfarlane المعمارية، والتي اتبعت نفس نظرية إعادة بناء المدن البريطانية التي تدمرت بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد أن قامت شركة Huntings Ltd بعمل مسح جوي للكويت للحصول على نظرة الطائر المحلق من الأعالي، بالإضافة إلى مسح آخر من قبل سلاح الجوية البريطانية،[18] تم الشروع في بناء المدينة في بداية الخمسينات.[19] وبناء على مبادئ الحداثة العالية، فقد ضم التخطيط بناء عشرة آلاف بيت على نمط الفلل، وتم تقسيم المناطق السكنية وترسيم أماكن خدماتها من دكاكين ومدارس وحدائق ومطاعم إلخ، والتي ما زال نمطها قائماً إلى اليوم في نظام الضواحي والقطع في الكويت.

ومع هذه الحركة الموسعة من إنشاء البيوت ومرافق المدينة، برزت الحاجة إلى بنية تحتية لتزويدها بالمياه. فتم بناء أول محطة تحلية في الخليج عن طريق شركتي Ewbank التي عملت كمستشار وشركةRichard Costain (Gulf Engineering company) التي تولت المقاولات. وكانت المرحلة الأولى للمحطة بسعة مليون جالون يومياً، على أن يتم مضاعفة الحجم في المرحلة الثانية. وما كان بالإمكان تحلية المياه دون إنتاج الكهرباء، فتم بناء عدة محطات فرعية من قبل Richard Costain (Gulf Engineering company) لتزويد الاستهلاك المتصاعد في المدينة. ومع تحلية المياه برزت الحاجة إلى تخطيط عملية توزيع المياه وتخزينه في الأبراج، حتى أصبحت هذه الأبراج المائية من أهم ملامح مدن الخليج. وسرعان ما تبع ذلك الحاجة إلى شبكة المجاري، التي تم الشروع في بنائها عام 1957.

في خضم هذا التوسع، تبين أن هناك حاجة لميناء عميق يستطيع تحمل الواردات المتضخمة لبناء هذه المدينة، والتي لم يعد بإمكان الميناء الذي بني قبل بضعة سنوات أن يتحملها بعد أن وصل إلى أقصى طاقته الاستيعابية. ولذلك تم الشروع في حفر البحر وبناء ميناء جديد في الشويخ من قبل شركة WILLIAM HALCROW and PARTNER. وسرعان ما تبع ذلك بناء مسلخ مركزي، ومطار، وعدة مستشفيات ومدارس. وفي سرعة قياسية لم تتعدى بضع سنوات، تشكلت مدينة الحداثة النفطية التي نعرفها اليوم بناء على مبدأ تخطيط الحداثة العالية، والتي لعبت فيها التكنولوجيا المرتبطة باستهلاك النفط الدور الحيوي الرئيسي في تمكين الحياة في هذه المدن، من مائها إلى طاقتها إلى توصيل المواد والبشر الوافدين إليها. أما مدينة الكويت التاريخية، فاختفت من أرض الواقع لتبقى فقط في ذكريات من عاشرها والقليل من الأطلال والصور المتناثرة.

وكان النمو المطرد في الاستهلاك من أهم ركائز هذه المدن. فإذا ما ركزنا على الكهرباء، فإن أول حضور لها في الكويت قد سبق عصر النفط، إذ تم تزويدها بشكل تجاري لأول مرة عام 1934 بسعة ستين كيلوواط وباشتراك 60 مستخدم بنهاية السنة الأولى، وما لبث أن ارتفع عدد المستخدمين إلى 700 مستخدم عام 1940.[20] إلا أن هذه الأرقام بدت متواضعة مقارنة بعصر النفط، حيث ارتفع عدد المشتركين إلى 2,462 عام 1952،[21] وسرعان ما تضاعف إلى ما يقارب 18,000 مستخدم في سبتمبر 1956. وكانت المكيفات تستولي على أكثر من نصف الاستهلاك، حيث زاد الاستهلاك من 600 كيلوواط في وقت الذروة في بداية 1952، إلى 24,135 كيلوواط في نهاية سبتمبر 1956. وبذلك لم يرتفع عدد المستهلكين فقط، بل ارتفعت كثافة الاستهلاك لكل مستخدم أيضاً، حيث تضاعف الاستهلاك للفرد ما يقارب خمس مرات من 0.25 كيلوواط بنهاية 1951، حتى 1.185 في سبتمبر 1956.

ونفس الأمر انطبق على المياه. ففي عصر النفط، كانت غالبية مياه الكويت يتم جلبها من العراق، ووصلت كمية المياه التي يتم استقطابها إلى 8,500 جالون يومياً عام 1939.[22] أما في عصر النفط، فقد ارتفع الإنتاج إلى 80,000 جالون مع بناء أول وحدة تقطير عام 1951، وتبعتها محطة الشويخ في عام 1953 التي وصلت سعتها إلى مليون غالون يومياً. وسرعان ما ارتفعت السعة إلى 18 مليون غالون يومياً بحلول عام 1968، واستمر هذا الارتفاع بشكل متسارع.[23] وكما الحال مع الطاقة، فقد ارتفعت كثافة الاستهلاك خلال هذه الفترة من استهلاك فردي سنوي يوازي 4,604 جالون عام 1959، إلى 21,589 جالون عام 1988 و39,884 جالون عام 1997.[24] وبالإجمال، زاد الاستهلاك السنوي الكلي من 246 مليون غالون عام 1951 إلى 36,904 مليون غالون عام 1985، أي أنه تضاعف 150 مرة خلال 31 سنة.[25] ولنتذكر أن هذا حدث في بلد صحراوي يعتبر من أفقر البلدان في العالم من ناحية المياه العذبة. أما من ناحية النمو في أعداد السيارات، فلا دلالة أكثر من أنه في إحصاء 1964 للمنشآت الصناعية في البلاد، كانت الغالبية الساحقة منها عبارة عن كراجات لتصليح السيارات.[26]

وانتشر نمط حياة واستهلاك مدن الحداثة النفطية من الكويت إلى بقية دول الخليج، بحيث أصبحت دول الخليج تعج بمباني صممت من قبل أشهر معماريي مدرسة الحداثة (modernist school of architecture) في العالم،[27] مع تواجد الاختلافات في تخطيط المدن فيما بينها. ففي البحرين، لم تدمر المدينتين القديمتين المحرق والمنامة، بل تم تنظيم الطرق المحيطة بها،[28] ومن ثم تم بناء الضواحي السكنية حولها، بدءاً بمشروع مدينة عيسى عام 1965،[29] الذي صمم ليسع لخمسة وثلاثين ألف قاطن. وتواصل نمو الأحياء السكنية حول المدن القديمة، التي بدأ المواطنين بهجرها مع مرور الزمن والانتقال إلى الضواحي الجديدة.[30]

السعودية تميزت عن باقي دول الخليج (فيما عدى عمان والإمارات نسبياً) بكبر حجمها وترامي أطرافها، ولذلك فقد نمت أكثر من مدينة هناك بناء على مبدأ الحداثة العالية. فصمم المهندس المصري عبدالرحمن حسين مخلوف المخطط الهيكلي لمدن جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة في الأعوام 1963-1965،[31] وقام أيضاً بوضع المخطط الهيكلي لمدينة أبوظبي عام 1968. أما الرياض، فتم رسم مخططها الهيكلي من قبل المهندس اليوناني الشهير Doxiadis، وهو نفسه من وضع مخطط إسلام آباد وعدة مدن أخرى في العالم النامي.[32] وعلى الرغم من اختلاف مخطط كل مدينة، إلا أن ما جمعها كلها هو مبدأ التخطيط الحداثي العالي، والاعتماد على مبدأ السيارات كوسيلة النقل الرئيسية، والضواحي المخططة لحياة الفلل.

وبناء على ذلك نمت المدن ومرافقها بشكل متصاعد على امتداد الخليج. فإذا أخذنا السعودية كمثال، زاد طول الشوارع المكتمل بناؤها من 45 كيلومتر عام 1951 إلى 1,542 كيلومتر عام 1959، و6,856 كيلومتر عام 1969. وتم البدء في إنشاء رابع مصنع تحلية في البلاد عام 1969، بالإضافة إلى توسعة الميناءين الرئيسيين للواردات في الدمام والخبر واللذين كانا قد وصلا إلى طاقتهما الاستيعابية القصوى على الرغم من حداثة بنائهما، حيث ارتفعت الواردات من 965 مليون ريال عام 1958 إلى 3,080 ريال عام 1969، أي أنها تضاعفت ثلاث مرات في عشر سنوات بمعدل نمو بلغ 11% سنوياً.[33]

 

الإسكان ونمط استعمال العقار

وهكذا انصبت إيرادات النفط في الخليج على بناء مدن الحداثة العالية، أكان ذلك عن طريق نشاطات العقار والإنشاء أو الاستهلاك والاستيراد والخدمات التي صاحبت هذا العقار. وقد أثرت طبيعة المدينة التي تم بناؤها بكل تأكيد على نمط استغلال العقار (mode of property exploitation) في المدينة. وقد لعبت ثلاثة أهداف دوراً رئيسياً في تحديد نمط استعمال الأراضي خلال هذه الفترة. الأول هو أن جزءاً منها توجه نحو توفير مدينة الرفاه للمواطنين، وتنمية الدولة حسب تعاريف "التنمية" في تلك الفترة، وبإمكاننا تسمية نمط استعمال العقار هذا ببناء "دولة التنمية-الرفاه" (Welfare-developmentalist state). الهدف الثاني من نمط استخدام العقار كان بسط فنون حكم وسيطرة الدولة على سكانها. أما الهدف الثالث الرئيسي، فكان تحريك ونمو رؤوس الأموال. وكما سنبين، تلاقت هذه الأهداف الثلاثة فيما بينها في مدن الحداثة النفطية التي تم بناؤها في هذه الفترة.

لنبدأ بدولة التنمية-الرفاه. فكما بينا في دراسات سابقة، ونظراً للضغوطات السياسية والشعبية المحلية والإقليمية، تم تخصيص جزء كبير من عقار المدينة نحو تنفيذ خطط التنمية، والتي تمثلت في بناء دولة الرفاه والبنية التحتية من مطارات وشوارع وموانئ ومدارس ومستشفيات وبيوت إسكان إلخ.[34] وقد تكون مشاريع الإسكان المدعومة من قبل الدولة هي خير دليل على هذا التوجه نحو التنمية-الرفاه خلال هذه الفترة منذ بداياتها في الكويت في الخمسينات، إذ كان جزء رئيسي من الخطة يترتب حول توزيع أقسام الأراضي على المواطنين وتوفير التحويلات والقروض لهم لبنائها. وسرعان ما تبنتها كل دول الخليج وأصبحت جزءاً رئيسياً من الطرح الرسمي حول رفاهية المواطن التي تعتني بها الدولة وتأخذ حيزاً كبيراً من ميزانياتها. فإذا أخذنا البحرين كمثال، فقد ارتفع إجمالي عدد الوحدات السكنية في البلاد من 14,380 وحدة سكنية عام 1941 إلى 106,000 وحدة عام 2001، ومن ثم إلى 151,580 عام 2010،[35] ساهمت وزارة الإسكان في تمويل أكثر من مئة ألف وحدة وخدمات سكنية لمجموع المواطنين البالغ عددهم نصف مليون حتى عام 2010. وهذه الظاهرة انطبقت على كل دول الخليج، حيث أصبح الإسكان وتملك المواطنين للسكن جزء من دولة الرفاه وطريقة أساسية لتوزيع جزء من ريع النفط من الدولة إلى المواطنين. وتعتبر نسبة تملك المواطنين للسكن في دول الخليج عالية نسبياً على مستوى العالم، فيما عدى حالة السعودية.[36]

 

شكل 1.2.9: تطور عدد الوحدات السكنية في البحرين والإمارات والكويت 1941 – 2010 (بالآلاف)

*المصدر: أجهزة الإحصاء الرسمية

 

 

جدول 1.2.2: نسبة تملك المواطنين لسكنهم

*المصدر: "«الإحصاء»: 49.8 % نسبة تملك الأسر للمساكن،" صحيفة اليوم، 25 اكتوبر 2016، < https://goo.gl/h4CSBS >.

"نسبة تملك السعوديين لمساكنهم تفوق المعدلات في سويسرا وألمانيا واليابان وكوريا،" صحيفة الرياض، 30 اغسطس 2015، < https://goo.gl/xScMcF >.

 

وقد وفرت أنشطة بناء دولة الرفاه والتنمية الجزء الأكبر من الفرص الاقتصادية لملاك رؤوس الأموال في هذه الفترة الأولى من مدن الحداثة النفطية. إذ أصبح قطاع العقار والإنشاء هو احدى الطرق الرئيسي للإثراء محلياً، بالإضافة إلى نشاطات توريد السلع التي نمت من هذا النشاط الإنشائي والخدمات الاستهلاكية المصاحبة. وبالتأكيد، فقد استفاد ملاك الأراضي من الزيادة الهائلة في أسعار العقار، التي تضاعفت عدة مرات في فترة الطفرات النفطية مع تدوير عوائده في بيع وشراء الأراضي، بحيث خُلقت ثروات بين ليلة وضحاها في سوق العقار. ولعبت الدولة خلال هذه الفترة الأولى من مدن الحداثة النفطية الدور الرئيسي في خلق إجمالي العرض والطلب في الاقتصاد في آن واحد، وذلك عبر صرف إيرادات النفط على هذه المشاريع الإنشائية ودولة الرفاه. فعن طريق توزيع الأراضي على المواطنين، والقروض والرواتب المصاحبة لها، توافرت الأراضي والقوة الشرائية عند المواطنين ووفرت الطلب على هذه المشاريع. وفي نفس الوقت، تم استقطاب شركات الإنشاء العالمية ذات المهارات والتكنولوجيا لتنفيذ هذه المشاريع، وسرعان ما تولت شركات الإنشاء المحلية زمام الأمور ونفذت مشاريع البناء السكنية التي لم تتطلب تكنولوجيا عالية.

وقد كان لأحجام البيوت "الفيلا" التي تم بنائها الدور الكبير في زيادة كثافة الاستهلاك وتباعاً مضاعفة إجمالي الطلب في الاقتصاد. فلم يكن بالغريب أن يحتوي بيت المواطن متوسط الدخل على خمس غرف نوم، ومطبخين، وصالة، ومجلس للضيوف ومجلس داخلي، بالإضافة إلى الحمامات ومرافق عاملي الخدمة المنزلية ومواقف السيارات الموازية، وقد تكون لديه حديقة صغيرة أيضاً. وبذلك، فبعد أن كانت عوائل أغلب المواطنين تعيش في البيوت المتلاصقة في أحياء المدينة القديمة (وكانت أحياناً أشبه بأكواخ السعف أو "البرستي")، أو في مساكن متواضعة في البادية أو في المناطق الزراعية، أصبح جزء كبير من المواطنين يعيش في بيوت زاد حجمها على البيوت في الدول الأكثر استهلاكاً وتصنيعاً في الغرب. ففي الكويت، بلغ متوسط مساحة البيت المبنية 1,569 متراً مربعاً، مقارنة بـ 214 متر مربع في أستراليا، و221 متر مربع في الولايات المتحدة الأمريكية، و181 متر مربع في كندا.[37] ليس هذا فقط، بل بنى الكثير من المواطنين ميسوري الحال "شاليهات" أيضاً على البحر أو ملحقاً في مزرعة لقضاء العطل، ليملك وحدتين سكنيتين أو ثلاث للاستهلاك الشخصي في البلد، هذا عوضاً عن أي عقارات قد يملكها خارج البلاد.

وبذلك وفرت هذه المشاريع السكنية حلاً لرؤوس الأموال الفائضة في الاقتصاد، والتي أتت مع إيرادات النفط المتضخمة، حيث كان أحد أهم الحلول للفائض من رؤوس الأموال هو أن يتم استثمارها في الأرض والعقار، عن طريق بناء البنية التحتية والمباني والشوارع والبيوت والدكاكين، والحركة الاقتصادية التي ستنتج من ذلك من طلب على السيارات والمطاعم والسلع الاستهلاكية. وبذلك، تم تدوير إيرادات النفط أساساً في الحركة الاقتصادية المصاحبة لبناء دولة الرفاه-التنمية في مدن الحداثة النفطية، وبدون شك كانت هذه الحركة هي المحرك الرئيسي للاقتصاد المحلي في الخليج في الفترة الأولى من الحداثة النفطية من الخمسينات إلى الثمانينات.

بالإضافة إلى تحريك رأس المال وتوفير دولة الرفاه-التنمية، كان الهدف الثالث المهم من نمط استعمال العقار هو بسط فنون حكم الدولة على المجتمع، بحيث تتجذر نفوذ كتلة القوة (power bloc) في أعلى هذا الهرم المجتمعي، وخصوصاً العائلة الحاكمة. فكما لعب تحكم كبار شخصيات العائلة الحاكمة في مفاصل مؤسسات الدولة دوراً رئيسياً في بسط نفوذ العائلة على بقية الشعب، كان للتحكم في العقار دور رئيسي أيضاً في تثبيت هذه القوة السياسية والاقتصادية في العائلة الحاكمة.

وقد أسس العقار لهذا المبدأ عبر أكثر من وسيله. أولها تبلور مبدأ أن الدولة هي المالك الرئيسي للأرض في العصر الحديث، وهي من توزع الأراضي وتوفر السكن لغالبية المواطنين. ولما كانت العائلة الحاكمة في أعلى سلم الدولة، فقد ارتبطت خدمات الدولة بالعائلة الحاكمة، حتى تم النظر إلى هذه الخدمات وكأنها "مكرمة" من الحاكم وعائلته في كثير من الأحيان.

الطريقة الثانية كانت عبر طبيعة تصميم هذه المدن ذات الحداثة العالية، التي مكنت الدولة من أن تصمم مدينة أكثر قابلية للتحكم وبسط النفوذ. فالمدن القديمة ذات النمو العضوي مشهورة بأنها ليست الأنسب لبسط نفوذ الدولة. إذ أن التوزيع الجغرافي لبيوتها يفتقر إلى التخطيط المركزي، وأزقتها الضيقة تصعب عملية دخول مركبات وعناصر الأمن إليها. فكما هو معروف، كان من الأهداف الرئيسية من نمط التصميم الحديث لمدينة باريس من قبل المصمم الشهير هاوسمان (Haussman) في خمسينات القرن التاسع عشر (الذي تبعها بتصميم وسط البلد في القاهرة)، هو إحكام السيطرة على أزقة باريس الفقيرة التي ما انفكت تنفجر فيها الانتفاضة تلو الأخرى ضد الدولة.  ولذلك فقد تم تصميم الشوارع الرئيسية للمدينة كالشانزليزيه لتكون واسعة ومركزية في وسط المدينة، حتى تسهل عملية دخول القوات والمركبات الأمنية إلى أي من هذه الأحياء في حال نشوب الاضطرابات.[38]

وكانت الحال مشابهة في مدن الخليج، ولنا كمثال أزقة مدينة المحرق الضيقة في البحرين.  فبحسب المستشار بلجريف الحاكم الفعلي للبلاد آنذاك، كان أهل المدينة يرون أنفسهم بأنهم مستقلين عن الدولة المركزية، ولذلك أصبحت قضية بسط نفوذ الدولة عليهم قضية ضرورية، وهذا كان من أهم أسباب بناء الجسر الذي يربط جزيرة المحرق بالجزيرة الأم في ثلاثينات القرن الماضي.[39] ولم يتوقف سكان مدينة المحرق التاريخية عن كونهم أكبر مصدر للحركات المعارضة للبريطانيين ونظام الحكم المحلي حتى سبعينات القرن العشرين، حين بدأ المواطنون بهجرة المدينة القديمة نحو الضواحي الجديدة بشكل موسع. [40] ولمثال أكثر قرباً من ناحية الزمن، لنا أن نحلل عملية هدم حي المسورة في العوامية في السعودية عام 2017، حتى يسهل لقوات الأمن مواجهة الحركات المعارضة المسلحة التي كانت تستعمل أزقة الحي الضيقة كمأوى لها.

أما الطريقة الثالثة، والتي قد تكون أهم طريقة لاستعمال العقار لتثبيت نفوذ العائلة الحاكمة، فكانت عبر استملاكهم وتسجيلهم للجزء الأكبر من العقار في هذه المدن الجديدة تحت ملكهم الخاص في مثال حي على ما يسمى بالتراكم الأولي أو البدائي (primitive accumulation)،[41] المبني على استملاك أصول غالباً ما تكون إما ملكاً عاماً أو غير مملوكة لأحد، كالأراضي غير المأهولة سابقاً والبحار التي تم دفنها وتحويلها إلى ملك خاص ورؤوس أموال بالإمكان استعمالها في أنشطة ربحية. فلما كانت مؤسسات الدولة هي أساس الصرف والمحرك الاقتصادي الرئيسي للبلاد، وحيث أن ملك الأراضي الخاص كان يجب أن يسجل في مؤسسات الدولة حتى يتم الاعتراف به رسمياً، فقد أعطى ذلك الجهة التي لديها النفوذ الأكبر على مؤسسات الدولة القدرة على استعمال هذا النفوذ لتثبيت ملكها الخاص للعقار. ولم يتردد أعضاء من العوائل الحاكمة في استعمال هذا النفوذ للاستحواذ على جزء كبير من أراضي البلاد. ففي الكويت في الفترة من 1952 – 1970/ 1971، خصصت 20.6% من الميزانية لشراء الأراضي من أطراف خاصة، وفي قطر ذهبت 9.9% من ميزانيات أعوام 1953/1955-1970 إلى نفس الهدف. وقد كان أكبر المستفيدين هم أعضاء من العائلة الحاكمة، بالإضافة إلى بعض كبار ملاك الأراضي من التجار.[42]

وقد تكون السعودية نظراً إلى حجمها هي المكان التي برزت فيها هذه العملية في تجليها الأوسع، حيث اشتهرت ظاهرة "الشبوك"، والتي يقوم عبرها المتنفذين بتسوير الأراضي وتسجيلها كملك خاص لدى الدولة. فكما ذكرنا مسبقاً، كان غالبية سكان السعودية تاريخياً يعتمدون على الزراعة والرعي في نمط حياتهم. وقد بنيت هذه النشاطات الاقتصادية أساساً إما على تملك أراض زراعية صغيرة الحجم، أو عبر أراض صحراوية كانت تحت النفوذ الجماعي لقبيلة أو مجموعة معينة. ولم يكن مبدأ الملك الخاص للعقار قد تجذر بشكل موسع سوى في مناطق زراعية ومدينيه محدودة. إلا أنه مع تأسيس الدولة ومن ثم تصدير النفط، قضي على هذه الأنماط السابقة من استعمال الأراضي والأعمال المرتبطة بها، وتم تأسيس مبدأ ملك الدولة والملك الخاص للأراضي. فتم تطبيق قانون تسجيل الأراضي على مستوى المملكة عام 1952، بحيث إن لم يكن باستطاعة الفرد إثبات ملكه الخاص للأراضي، فإنها تعود مباشرة إلى الدولة.

وسرعان ما أصبحت مؤسسات الدولة هي الجهة الرئيسية التي توزع الأراضي وتتحكم فيمن يحصل عليها، سواء الزراعية منها أو تلك التي في محيط المدن. فمن ناحية الأراضي الزراعية، كانت الهبات بداية صغيرة الحجم بمعدل هكتار (عشرة آلاف متر)، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى هبات كبيرة من 5-10 هكتارات، التي فضلت كبار الملاك الزراعيين على صغارهم. وبعام 1980، تم توزيع 123 ألف هكتار على 14,400 شخص و87 شركة كبيرة، بمعدل 8.5 هكتار لكل منهما. ثم ما لبثت أن تضخمت الأحجام بشكل متزايد، فبين عامي 1980 إلى 1984، وزعت 36% من أراضي مساحتها 435 ألف هكتار على عشر شركات زراعية مساهمة (بمعدل 15,660 هكتار لكل منها)، و40% إلى 1,456 مزارع كبيرة ذات ملك فردي (بمعدل 120 هكتار لكل منهم)، و24% إلى 18,621 إلى مزارعين "صغار"، بمعدل 5.8  هكتار لكل منهما (والذين قطعاً لم يكونوا "صغاراً" إذا ما قورنوا بصغار المزارعين في عصر ما قبل النفط).  وبذلك أصبحت السعودية من أكثر الدول حدة في عدم تكافؤ توزيع الأراضي، إذ أنه بعام 1981، كان 24% من كل الأراضي الخاصة الزراعية في يد شركات أملاك خاصة فردية أو الشركات كبيرة الحجم.

ونفس الأمر انطبق على الأراضي غير الزراعية، حيث تم توزيعها على كبار الملاك بشكل أساسي. وبحلول عام 1981، كان 16.2% من إجمالي ملاك الأراضي، يملكون 82% من إجمالي الأراضي الخاصة في السعودية (وهذا الرقم مبني فقط على من يملك أرضاً، ولا يشمل الأغلبية التي لا تملك أرضاً أو عقار). وبطبيعة الحال، فقد كان أعضاء من العائلة الحاكمة وكبار المتنفذين المقربين منها من تجار وأعيان هم أكثر المستفيدين منها. ونظراً للهبات الموسعة، وصل الحال بأنه في دولة بمساحة السعودية، كانت الدولة لا تملك تقريباً أية أراض زراعية في المدن.[43] أما أكثر المتضررين، فكانوا من صغار مزارعي الأمس وغيرهم من الرعاة، الذين فقدوا نمط عملهم وأراضيهم وحياتهم في ظل نمط استعمال الأرض الجديد.

قد تكون السعودية هي الحالة الأكثر حدة، إلا أن بسط نفوذ أعضاء من العائلة الحاكمة على الأراضي هي سمة بارزة في كل دول الخليج، بحيث رسخت سلطتهم على رأس الهرم الاجتماعي. إلا أنه وكما رأينا، فقد قامت الدولة أيضاً بتوزيع جزء من هذه الأراضي على المواطنين عبر برامج الإسكان التي تم ذكرها. وبذلك لعب توزيع الأراضي دوراً مماثلاً لما لعبه توزيع ريع النفط في المجتمع، بحيث كانت الدولة هي الموزع الرئيس للأراضي كما كان حالها مع توزيع ريع النفط، وذهب الجزء الأكبر من هذا التوزيع للأراضي وريع النفط للقلة في أعلى الهرم، ومن ثم حصل عموم المواطنين على الجزء المتبقي من ريع الأرض والنفط. وبذلك تجذر مبدأ "أريد نصيبي الخاص من الكعكة" فيما يخص الأراضي، كما كان الحال مع ريع النفط من أعلى الهرم إلى أسفله، كل حسب مكانته السياسية والاجتماعية. كما خلقت عملية توزيع الأراضي في الضواحي الجديدة آلية محدثة لبسط التحكم على المواطنين، عبر إعطائهم ثروة مادية خاصة ارتبطت بحسن سلوكهم مع الدولة. فكما يقول المثل الأمريكي، فإن الشخص الذي يملك عقاراً وبيتاً في الضواحي لن يثور لأن عنده الكثير ليلهي نفسه فيه عن الثورة وليخسره إن حصلت الثورة، وخصوصاً أن كانت الدولة هي مصدر ثروته هذه.

إذن، إجمالاً، فقد كان نمط استعمال العقار في مدن الحداثة النفطية في النصف الثاني من القرن العشرين في الخليج موجهاً نحو توفير دولة التنمية-الرفاه للمواطنين، وتنشيط حركة رؤوس الأموال، وبسط نفوذ الدولة على الشعب، خصوصاً العائلة الحاكمة. وكان لوفرة إيرادات النفط أن تمول هذه المشاريع الإنشائية، التي استطاعت أن تلبي هذه الأهداف الثلاثة في آن واحد. وأما المدن التاريخية، فبعد أن كانت مركز الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الخليج في عصر ما قبل النفط، تضاءلت أهميتها في خضم صعود مدن الحداثة النفطية. فحاراتها التي صممت أساساً للسير على الأقدام لم تستطع أن تتحمل اكتظاظ السيارات، ولا بيوتها المتراصة أصبحت مناسبة لنمو الاستهلاك الموسع في الفلل، ولا موانئها التاريخية التي صممت لتجارة اللؤلؤ استطاعت تحمل طبيعة التجارة الجديدة. ولذلك، فإما أن الدولة قامت بهدمها كلياً وبناء مدن حداثية في مكانها، كما كان الحال في الكويت، أو تم هدمها لبناء نسخة مزيفة على نمط ديزني (Disney) مهيئة لتحفيز الاستهلاك، كما كان الحال مع قطر في سوق واقف ومشيرب ومدينة الوكرة القديمة. وإن حصل وأن نجت هذه المدن التاريخية من الهدم، كما هو حال المنامة والمحرق في البحرين، فقد هجرها المواطنون على مر الزمن وقاموا بتأجير بيوتها على الوافدين من ذوي الدخل المحدود الذين لم يسع لهم أن يتحملوا تكاليف نمط الاستهلاك الموسع في مدينة السيارات والضواحي الجديدة. كما حول بعض المواطنين هذه البيوت إلى شقق ودكاكين صغيرة بملك فردي، وبذلك تحولت المدن القديمة إلى عمارات شقق ودكاكين على هامش وأطراف الأحياء السكنية والتجارية الجديدة في مدن الحداثة النفطية، التي أصبحت هي مركز وعصب الحياة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة في الخليج.

 

حمى المشاريع العقارية الكبرى

ولكن في سخرية غريبة من الأقدار، فقد كان مكتوباً حتى على هذه الأحياء الجديدة التي تم بنائها في مدن الحداثة النفطية في فترة الخمسينات إلى الثمانينات، أن تصبح هي بدورها قديمة مهمشة في النمط الجديد من استعمال العقار في القرن الحادي والعشرين. بل بدأ يتبلور تناقض وتنافر فيما بين الأهداف الثلاثة التي بيناها سابقاً في نمط استعمال العقار من توفير دولة الرفاه-التنمية، وخدمة رؤوس الأموال، وبسط سيطرة الدولة، وفيما بين الأطراف المستفيدة من هذه الأهداف.

فبانتهاء الألفية الثانية، كان قد مضى حوالي عقدين على أزمة هبوط أسعار النفط، والتي تباطأت خلالها المشاريع الإنشائية الممولة من الدولة. وكانت مشاريع الإسكان الموجهة نحو المواطنين تشكل عبئاً متزايداً على ميزانية الدولة، ولذلك لم يعد بناؤها يوفر نفس الإغراء السابق لكبار ملاك رؤوس الأموال. أما من ناحية المواطن، فقد كانت قائمة الانتظار لبيوت الإسكان تمتد لأكثر من عشر سنوات حتى في دول غنية مثل الكويت، بحيث لم يعد بإمكان الدولة أن توفي بالطلب المتسارع على هذه المشاريع. فعدد السكان والطلب على الإسكان ما انفك يزداد، بينما إيرادات النفط كانت في نقصان وتتقلب بشكل لا يسمح بالإيفاء بالمصروفات لهذا النمو في الطلب. فوصل الحال في الكويت بأن انخفضت نسبة مالكي السكن الخاص بنسبة 8.4%- بين 2003- 2013 إلى 55.9%، بينما ارتفع اجمالي الطلب في قائمة الانتظار على الوحدات السكنية بنسبة 47.6% إلى أكثر من 108 ألف وحدة في المدة نفسها. ولما كان إجمالي عدد المنازل المبنية في الكويت عام 2013 قد بلغ 140 ألف منزل، فإن الإيفاء بهذه الطلبات الجديدة كان يحتاج فعلياً إلى بناء مدينة كويت جديدة، وقدرة الدولة على تمويل ذلك كانت من سابع المستحيلات إذا طلب منها بناء البيوت على نفس الحجم والنمط التي بنيت عليه منذ اكتشاف النفط.

إلا أن الالفية الجديدة جاءت بالفرج، حيث ارتفعت أسعار النفط أكثر من خمس مرات في غضون سنين معدودة. وسرعان ما عادت المشاريع الإنشائية العملاقة بالظهور في دول الخليج. إلا أن نمطاً جديداً قد بدأ بالتبلور في استخدام العقار والأراضي في الكثير من مدنها، وخصوصاً في البحرين والإمارات وقطر وعمان، حيث اختلف هذا النمط بشكل جذري عن النمط الذي ساد في دولة التنمية-الرفاه السابقة، وتميز بطغيان حمى المشاريع العقارية الدولية الخاصة الكبرى.

فمع بداية الألفية الجديدة، ظهرت حزمة من القوانين في هذه الدول تعبر عن سياسة عقارية وسكانية فريدة من نوعها عالمياً. ولم يكن بالغريب أن تكون دبي في مقدمة تطبيق هذه السياسة. حيث لم تعد المشاريع العقارية مسؤولة فقط عن تلبية طلب سكن المواطنين والوافدين الذين يعملون داخل البلاد، بل أصبحت المشاريع العقارية موجهة نحو المشتري الدولي، بحيث أصبح على الدول أن تجتذب هذا المشتري الدولي لشراء العقار فيها، وتصمم سياساتها ورؤاها حول ذلك. وبهذا، تبلورت على أرض الواقع مشاريع عقارية ضخمة تعبر عن رؤية اقتصادية جديدة، هدفها استقطاب مشتري العقار الدولي، وجعله شريكاً أساسياً في اقتصاديات دول مجلس التعاون ومجتمعاتها.

وبذلك، امتدت مساحة الطلب الذي كان للعقار أن يلبيها، فبعد أن تركزت على سكان مجلس التعاون من مواطنين وقوة عمل وافدة، فقد وصلت الآن إلى الوافدين من مستثمرين لا يسكنون المنطقة بتاتاً. وقد دفع كبار ملاك الأراضي وكبار ملاك شركات العقار والإنشاء نحو جعل هذه المشاريع في صلب الرؤى الاقتصادية الجديدة في هذه الدول. وهذا الأمر ليس بغريب، إذ كما رأينا في الفترة السابقة، تركزت أغلب النشاطات التجارية في الاقتصاد المحلي حول هذه القطاعات، والخدمات والواردات المصاحبة لها. إذن فعلياً، انحصرت الخبرات الإنتاجية التي راكمها أصحاب رؤوس الأموال في الخليج في أنشطة العقار والإنشاء والاستيراد والخدمات الاستهلاكية الموازية، بدلاً من تراكم خبرات في التصنيع والتصدير. ولذلك فليس من المستغرب أن يدفع كثير من أصحاب رؤوس الأموال نحو بناء مشاريع إنشائية ضخمة مرة أخرى، لكون مثل تلك المشاريع بمثابة الحد الأقصى لخبراتهم الاقتصادية المتراكمة. ولما كانت الدولة مفتقرة للقدرة أو الاهتمام بتمويل مشاريع الإسكان للمواطنين كما في الفترات السابقة، وحيث أن دخل المواطن الخاص خارج ما توفره له الحكومة لم يسمح له بالصرف الموسع على المشاريع الإسكانية، فما المانع من توجه انشطة العقار والإنشاء نحو سكان ليسوا في المنطقة، ولكن تتوفر لديهم القوة الشرائية المطلوبة، بالإضافة إلى المضاربين الذين يبيعون ويشترون في هذه المشاريع العقارية بهدف التربح (real estate flipping)؟

وبذلك توجهت غالبية النشاط الاقتصادي غير النفطي في المنطقة نحو بناء مشاريع عقارية ضخمة كان هدفها المعلن إغراء المستثمر الدولي بشراء العقار وتوجيه أنظاره نحو المنطقة. ففي المجموع، وبين هذه الدول الأربع من الإمارات والبحرين وقطر وعمان، تشير التقديرات المتحفظة أنه بعام 2009 تم الإعلان عن نية بناء ما لا يقل عن 1.3 مليون وحدة عقارية ذات التملك الحر أو الإيجار الطويل الأمد، أغلبها يحمل طابع الفخامة الموجهة لاجتذاب الطبقات المقتدرة، مما يسمح باستيعاب ما لا يقل عن 4.3 مليون قاطن فيها.[44] إذن فما كان يقرر أن يبنى من وحدات عقارية بهدف بيعها على غير المواطنين، كان يعد بجلب سكان يتعدون في عددهم مجموع مواطني هذه الدول ككل، والذي لم يتعد 3.6 مليون نسمة عام 2008. وتم سن الرؤى التنموية والمخططات الهيكلية الجديدة لهذه الدول بناء على هذه المشاريع، حتى وصل حجم المشاريع في القطاع العقاري والإنشائي المعلن عنها في عز الطفرة النفطية عام 2008 إلى 1.2 تريليون دولار، مشكّلة 57% من مجمل المشاريع المعلنة في دول مجلس التعاون. إذ كانت أكبر عشر مشاريع إنشائية في المنطقة بقيمة 393 مليار دولار كلها من هذا النوع العقاري الدولي الضخم.[45] ولم يقتصر محيط هذه المشاريع العقارية الكبرى على دول مجلس التعاون، بل امتدت إلى العديد من الدول العربية الأخرى بتمويل خليجي، فظهرت عدة مشاريع في مصر والأردن والمغرب وليبيا وحتى فلسطين على نفس نمط هذه المشاريع العقارية العملاقة.[46]

وقد بقي المنتفعين الأساسيين من هذه المشاريع في رأس الهرم الاجتماعي، المكون أساساً من المتنفذين من العائلة الحاكمة وكبار التجار، حيث وفرت حلاً لاستثمار رؤوس الأموال وتواصل نموها. إلا أن نمط استعمال الأراضي تغير بشكل جذري بناء على طبيعة هذه المشاريع.  فلما كانت الدولة لم يعد في مقدورها أن تمول مشاريع الإسكان للمواطنين، ولكن لم يزل هناك حاجة لتمويل مشاريع العقار  كي يتواصل تراكم رؤوس الأموال، فقد اتجهت الأنظار نحو "القطاع الخاص" لتمويلها. وكان الحل هو أن توزع الدولة الأراضي الآن أساساً بهدف توفير المساحة لبناء هذه المشاريع العقارية الضخمة، التي تحول تمويلها الآن إلى "القطاع الخاص".

ويعتبر "القطاع الخاص" هنا تعبير مضللاً إن لم يتم تفكيك العلاقات الاقتصادية المترتبة على هذا النوع من المشاريع، حيث أن ميزة أساسية بنيت عليها هذه العلاقات تمثلت في التلاقي وحتى التداخل بين متخذي القرار وكبار المستثمرين، حتى كان من الصعب في كثير من الأحيان التفرقة بين الطرفين، وليس من النادر أن يتكون الطرفان من نفس الأشخاص بعينهم. وهنا تتبين لنا خاصية أخرى مهمة ميزت هذه الفترة، وهي التشابك بين البنوك الاستثمارية وشركات مطوري العقار والمستثمرين ومؤسسات وأفراد الدولة، حتى أنه في كثير من الأحيان كان مطور المشروع هو نفسه البنك المستثمر وممثل الجهة الحكومية.[47]          

وبذلك تواصل دور الدولة في رسم المخططات وسن القوانين الممهدة لهذه المشاريع، إلا أنه تم خصخصة المستفيدين منها وحصرهم في فئة صغيرة، ذلك بعد أن كان على الأقل جزء منها يصل للمواطنين عبر مشاريع الإسكان في الفترة السابقة من دولة الرفاه-التنمية. فأصبحت أجزاء كبيرة من أراضي الدولة تقدر أحجامها بعشرات الكيلومترات المربعة توزع على المتنفذين من العائلة الحاكمة وكبار التجار، وتحولت هذه الأراضي إلى عقارات خاصة مسجلة باسمهم، مكنتهم من بيع هذه العقارات على مطوري المشاريع العقارية العملاقة. وبدورهم قام هؤلاء المطورون، الذين في كثير من الأحيان كانوا من الشركات المصرفية والبنوك، برسم مخطط المشروع العقاري الضخم الذي يحتوي على قسائم عقارية أصغر بعد تقسيم الأرض التي تم شرائها، على وعد أن تباع هذه الوحدات العقارية الفردية على المستهلك النهائي. وكان المشترون المستهدفون أساساً من قبل هذه المشاريع هم إما المستثمرين المضاربين على ارتفاع أسعار العقار(speculators)، أو المشترين الأجانب من الطبقة المقتدرة، إذ لم يكن باستطاعة الكثير من المواطنين تحمل تكلفة الشراء في هذه المشاريع العملاقة.

وبهذا، أضحت الأرض وكأنها سلعة مالية (financial commodity)، بدلاً من سلعة لها قيمة استعمالية (use-value) على أرض الواقع. حيث أصبحت الفائدة الأساسية من العقار هي كمية العوائد المالية المترتبة عليه، تماماً وكأن العقار أداة مالية مثلها مثل السندات (bonds)، يتم بيعها وشرائها بناء على السعر، بدلاً من الخدمة التي سيقدمها هذا العقار على أرض الواقع. فلم يعد يهم إن كان العقار سيستعمل لبناء مشاريع إسكانية للمواطنين أو مدارس أو مستشفيات لهم، أو مشاريع عقارية عملاقة تباع على أي كان في العالم، بشرط أن يتحمل تكلفتها المالية.[48]

وما كان ينطبق على الأرض أصبح أيضاً ينطبق على المدينة. إذ أصبح الهدف الرئيسي من هذه المدن الجديدة هو زيادة الأرباح للدرجة القصوى عبر المشاريع المبنية فيها. فعلى عكس المشاريع "التنموية" العملاقة التي سردناها في الفترة السابقة، وعلى الرغم من المآخذ عليها، فلم يكن الهدف الوحيد من هذه المشاريع هو الزيادة القصوى في الأرباح. كمثال، فإن بناء مشروع إسكاني للمواطنين كان يهدف إلى توفير السكن للمواطنين بالإضافة إلى زيادة الأرباح والأعمال لرأس المال. ولذلك، فقد اتجهت الكثير من المشاريع في تلك الفترة نحو ما كان يعتبر مشاريع دولة التنمية-الرفاه من بناء المطارات والأحياء السكنية للمواطنين والجامعات والمدارس إلخ، حتى وإن كانت هذه الأهداف التنموية في كثير من الأحيان تشكل عذراً لزيادة الإنفاق من قبل الدولة بهدف تراكم أرباح رؤوس الأموال.

أما في النمط الجديد من استعمال الأرض على ضوء حمى المشاريع العقارية الخاصة الكبرى، فلم يكن من الغريب أن تتغير بين ليلة وضحاها فكرة وهدف مشروع ضخم يمتد على عدة كيلومترات، ومن المفترض أن يعيش فيه المئات من الأشخاص، مادام ذلك يعني زيادة الأرباح.[49] فما كان يوماً مشروعاً عقارياً فخماً، قد يتغير إلى مشروع بيوت لمحدودي الدخل، ومن ثم إلى مشروع مدينة إعلامية، وكل ذلك بناء على ما قد يأتي بأعلى ربح ممكن.

ولما لم تعد هناك أية أهداف تنمية-رفاه مربوطة بالمشاريع، بل أصبح الهدف الرئيسي هو تعظيم الأرباح أياً كانت الطريقة، فلم يكن من الغريب أن الشركات التي مسكت زمام المبادرة في أغلب هذه المشاريع هي بنوك وشركات مصرفية. فإذا كان هدف المشروع الأساسي هو تعظيم الربح، حاله حال أي أداة مالية (financial instrument) أخرى، أوليس من الأفضل أن تمسك هذا المشروع شركة مالية متخصصة في التعامل مع الأدوات المالية، حتى تزيد الربح المالي فيه قدر الإمكان؟ 

وبهذا، أضحت هذه المشاريع العقارية الضخمة بأكملها سلعة، بل تم تسليع المدينة بأكملها (commodification of the city)، بحيث أصبح تخطيط المدينة وبنائها وهدمها مبنياً في الأساس على هدف الزيادة القصوى في الربح (profit maximization)، بدلاً من أي أهداف تنموية-رفاهية أخرى، والتي أصبحت ثانوية وبالإمكان تغييرها وفق أهداف الربح. بل أصبحت المدينة بأكملها كما هو الحال مع العقار أقرب إلى سلعة مالية (financial instrument)، بحيث تم أمولة المدينة (financialization of the city)، وأصبحت المؤسسات المصرفية المالية هي الجهة الرئيسية التي تخطط وتبني المدينة بأكملها من الصفر وحتى النهاية، ومن ثم يتم معاملة هذه المدينة كسلعة مالية يتم بيعها وشرائها لتراكم الأرباح. وبهذا لم تعد القيمة الاستعمالية (use-value) أو الفائدة والخدمة التي تقدمها المدينة لمن يعيش ويعمل ويقطنها هي الأساس، بل أصبح أساسها هو قيمتها التبادلية (exchange-value)، أو السعر والأرباح التي ستدرها على من يملكها ويبنيها.

لم تدخل الكويت غمار حمى المشاريع العقارية الكبرى الموجهة للمشتري الأجنبي هذه، على الرغم من أن طبقة المتنفذين وكبار ملاك رؤوس الأموال أرادوا ذلك بشدة. وكان ذلك أساساً لتواجد البرلمان المنتخب، الذي على الرغم من عدم قدرته على توفير بديل آخر نظراً لمحدودية صلاحياته التنفيذية، إلا أنه كان في وسعه أن يعطل أية حركة نحو تنفيذ هذه المشاريع العملاقة.[50] وبما أنه رأى بشكل صحيح أن المستفيد الأول والأخير من هذه المشاريع هم كبار ملاك رؤوس الأموال والعقارات، وأن استفادة المواطن منها معدومة، بل أنه سيتضرر لكون هذه المشاريع ستأخذ أراض وموارد كان بالإمكان توجيهها نحو بناء وحدات سكنية للمواطن، قام البرلمان برفض وصد أي من القوانين التي تسمح بفتح هذه المشاريع الكبرى أو بنائها. وبذلك، فإن ظاهرة تعطيل المشاريع الحكومية عموماً من قبل البرلمان في الكويت، قد أدى في سخرية من الاقدار إلى إيقاف هذه المشاريع العقارية الدولية الضخمة وعدم تفشيها في البلاد.

أما في السعودية، فنظراً لحجم الدولة الكبير من ناحية السكان والمساحة، تواصلت المشاريع العملاقة في أخذ شكل المشاريع الموجهة ولو اسمياً نحو أمور التنمية-الرفاه التي يحتاجها المجتمع، كما كان الحال في العقود السابقة، أكان ذلك عبر إنشاء جامعات بشكل متضخم، كجامعة الأميرة نورة وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا، أو التوسعة العمرانية الكبيرة في مكة المكرمة. إلا وأنه حتى في السعودية تم الشروع في بناء مدن ضخمة كان من المفروض أن توجه نحو استقطاب المستثمر الأجنبي، كما كان الحال مع مشروع مركز الملك عبدالله المالي.[51]

 ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فسرعان ما هبت عواصف الأزمة المالية والعقارية العالمية على الخليج في عام 2009، وبددت معها الكثير من هذه الأحلام العقارية الكبيرة في كل دول المجلس. وبحلول انتفاضات ما سمي بـ "الربيع العربي" عام 2011، ومن ثم الأزمة النفطية التي تلت هذه الأزمات العقارية والمالية السابقة بدءاً من عام 2015، لم يزل نمط استخدام العقار والاقتصاد المرتبط به في الخليج يترنح ولم يصل إلى مرحلة ثبات وتعافي. ولكن لا يبدو أن هذه الأزمة أدّت إلى انتهاء أحلام بناء المدن العالمية العقارية الكبرى، بل ظهرت موجة كبيرة تدفع باتجاهها من جديد، خصوصاً مع بروز مشروع مدينة نيوم في شمال المملكة ومشروع البحر الأحمر الذين أعلن عنهما في 2017، هذا بالإضافة عن أحاديث بإعادة إحياء مشروع مدينة الحرير في الكويت خلال نفس الفترة، ويبقى مصير هذه المشاريع غير واضحاً حتى وقت كتابة هذه السطور.

 

خلاصة نمط استخدام البيئة والعقار في مدن الحداثة النفطية

كان هدفنا في هذه الورقة تحليل مدن الحداثة النفطية في الخليج، التي بنيت حول السيارة وفلل الضواحي كوحداتها الرئيسية، حيث توجه نشاط الاقتصاد في الجزء الأول من عصر النفط من خمسينات إلى ثمانينات القرن المنصرم نحو بناء دولة الرفاه-التنمية في الخليج، وانصبت غالبية النشاط الاقتصادي في تدوير عائدات النفط عبر قطاع العقار والإنشاء والخدمات والاستيراد المصاحب له. وقد امتازت هذه المدن بالاستهلاك "السوبر-مكثف"، فأصبحت دول الخليج تتسم بأعلى نسب استهلاك للفرد من ناحية الطاقة، والمحروقات، والمياه، والغذاء، والسيارات، وحجم السكن، وحتى اكسسوارات التجميل في العالم. وأصبحت الدولة هي محور هذا النمط من استعمال العقار عبر تحكمها في إنفاق إيرادات النفط.

وكان لهذا النمط أن يستمر طالما توفرت إيرادات نفط كافية لتغذيته، ذلك لأنه حقق ثلاثة أهداف مركزية وفقت فيما بينها مصالح الفئات الرئيسية المختلفة في المجتمع بطريقة تفادت الصدام فيما بينها. إذ أن العائلة الحاكمة بسطت نفوذها على رأس الهرم الاجتماعي عبر تحكمها في توزيع ريع النفط والأراضي، حيث استحوذت على الجزء الأكبر منهما. أما كبار ملاك رؤوس الأموال، فقد نمت ثرواتهم عبر المشاريع العقارية والتجارية المتضخمة، فيما حصل المواطنون على أراض ومساكن خاصة ونمط حياة عالي الاستهلاك. أما الوافدون، فعلى الرغم من التحكم فيهم عبر قانون الكفالة، فقد استفادوا أيضاً عبر الفرص الوظيفية المتنامية في المنطقة.

لكن ما إن وصل الاقتصاد إلى مرحلة من عدم قدرة إيرادات النفط على تلبية الطلب الاستهلاكي والسكاني المتصاعد من هذا النمط من استخدام العقار، حتى ظهرت الخلافات والتوترات بين هذه الأهداف المختلفة والأطراف المرتبطة بها. وقد يكون هذا الصدام المتنامي فيما بين الأطراف وعدم قدرة إيرادات النفط على حله هو الجزء الأول الذي يضع علامة استفهام حول استدامة هذا النمط من استخدام العقار. ولما كانت الاستدامة هي محور اهتمامنا في هذه الدراسة، فإن عدم قدرة إيرادات النفط المتذبذبة على مواصلة تمويل الطلب الاستهلاكي المتنامي، أكان من ناحية الطلب على الإسكان من المواطنين أم مستويات الاستهلاك المترتبة عليه، ينذر بعدم استدامة هذا النمط من استخدام العقار ونمط النمو المرتبط به.

إلا أن هذه ليست القضية الأكبر المرتبطة بالاستدامة في نمط النمو واستخدام العقار، فمن الممكن جداً أن تبرز معادلة اقتصادية جديدة بعد الأزمة النفطية، تسمح بالتوافق فيما بين هذه العوامل الاقتصادية المختلفة المرتبطة بنمط استخدام العقار. بل إن القضية الأكبر مرتبطة باستدامة هذا النمط من النمو واستخدام العقار على نموذج الحداثة النفطية الذي بنيت حوله الحياة في الخليج. فأهمية النفط في اقتصاد بل حياة الإنسان ككل في الخليج تتعدى قيمة إيرادات النفط والمعادلة فيما بين العرض والطلب الاقتصادي فقط. فكما بينا، فإن غالبية أسس الحياة في الخليج، من توفير المياه والطاقة والشوارع إلى تشغيل السيارات وبناء المساكن، تعتمد بشكل جذري وأساسي على النفط. وبذلك، فإن النفط فعلياً أصبح الدم الذي يسري في عروق الحياة في الخليج ويجعلها قادرة على الاستمرار، ليس فقط من ناحية تزويده بالمال الذي تشتري به دول الخليج كل احتياجاتها، بل أيضاً من ناحية استعماله وحرقة لتزويد تلك الاحتياجات على أرض الواقع.

بل إن الاستهلاك المحلي للنفط ما انفك يزداد بوتيرة متسارعة في دول مجلس التعاون، كما هو حال نمو الاستهلاك النهم الذي بيناه في المواد الأخرى، حتى بدأ يشكل نسبة ليست بصغيرة من إنتاج النفط الذي كان يوجه سابقاً للتصدير (أنظر الرسمين البيانيين التاليين). وبذلك، بدأت القيمة الاستعمالية للنفط في دول المجلس عبر استهلاكه داخلياً تدخل في منافسة وتناقض مع قيمته التبادلية التي توفر النقد لاقتصادياتها عبر بيعه في الخارج.

 

شكل 1.2.10: الاستهلاك اليومي للنفط في دول مجلس التعاون (ألف برميل / يوم)

*المصدر: شركة النفط البريطانية، البنوك المركزية لدول مجلس التعاون

 

 

شكل 1.2.11: الاستهلاك المحلي من النفط في دول مجلس التعاون 2011 (ألف برميل / يوم)

*لا يشمل انتاج حقل أبو سعفة

*المصدر: شركة النفط البريطانية، البنوك المركزية لدول مجلس التعاون

 

ولذلك لنا أن نسأل: لو حصل واختفى النفط أو نضب، كيف سيتم توفير المياه في الخليج، وكيف سيتم تسيير المركبات، وكيف سيتم تزويد الطاقة التي تلطف حرارة الجو الملتهبة؟ ولنتذكر أن دول الخليج ما زالت حتى اليوم وبعد مرور ثمانين سنة على إنتاج النفط، غير قادرة على تصنيع الآلات والتكنولوجيا التي تحتاجها لإنتاج وإعادة إنتاج صناعة النفط، بل إنها تعتمد على شركات وتكنولوجيا وقوة عمل وافدة لبناء وتوفير هذه الآلات والمصانع، فما بالك بالتكنولوجيا المستخدمة في إنتاج وإعادة إنتاج مصانع الطاقة والماء؟

وأخيراً وليس آخراً، فإن خطورة عدم الاستدامة الناتجة عن هذا النمط من استخدام العقار والاستهلاك المكثف يتمحور حول إمكانية استدامة البيئة (ecology) في الخليج. فهذا التوسع النهم في المدن والبيوت والاستهلاك يتم أساساً على أرض صحراوية كانت كذلك لملايين السنين قبل مجيء عصر النفط. ولكن مع بروز تلك الحقبة الزمنية التي أصبح فيها تأثير الإنسان على العالم الذي يعيشه أكثر من أي كائن أو عامل آخر على وجه الأرض، وهي الحقبة الزمنية التي يعرفها العلماء بحقبة "الأنثربوسين" (Anthropocene) أو حقبة طغيان التأثير البشري على الكرة الأرضية، فقد أصبح الإنسان هو المتحكم الرئيسي في بيئة أراضي الخليج في عصر النفط. [52] فبالإمكان تحويل الصحراء إلى ملعب جولف أخضر أو منتجع تزلج عن طريق الطاقة والمياه والتكنولوجيا التي يوفرها النفط.

ومن المهم ان نشدد على مركزية استملاك واستهلاك الطبيعة في نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون. فإن كنا ركزنا في دراسات على اعتمادية اقتصاديات دول الخليج بشكل مفرط على استملاك وتصدير النفط بالإضافة إلى استيراد قوة العمل الوافدة كالمحورين الرئيسيين لنمط نمو الإنتاج، والذي لخصناه في مصطلح OELI (Oil Export – Labor Import)، فإن تحليلنا لن يكون مكتملاً لو لم نضف استملاك واستهلاك البيئة كعمود ثالث إليهما.[53] وهذا الاستملاك والاستهلاك للبيئة يشمل النفط، ولكن يتعدى ذلك ليشمل الأراضي والبحار والهواء الذي ما انفك يتم استغلالها بشكل توسعي في سبيل تفعيل النمو الاقتصادي. وبذلك، فإن النمو العددي في إنتاج دول مجلس التعاون لا يعتمد على النمو العددي فقط في قوة العمل، بل يعتمد ايضاً على النمو العددي في مدخلات الإنتاج، وعلى رأسها استملاك مكونات الطبيعة وتسخيرها لهذا الأمر.

وهذا الاستملاك والاستغلال الموسع للبيئة عنى أنه تم تسخير عواملها لتستجيب إلى عقلية وإيقاع دورة نمو رأس المال. وهذه نقطة محورية من المهم التعمق فيها. فكما بينّا مسبقاً، ترتكز عقلية رأس المال أساساً على هدف تعاظم الأرباح، وزمن دورة رأس المال نادراً ما تتعدى بضع سنين أو عقود على أبعد تقدير. في المقابل، فإن البيئة وما فيها ليست سلعة صُنعت بهدف الربح، بل هي نتاج الملايين من العلاقات والعوامل الإيكولوجية والبيولوجية والجغرافية التي كانت خارج منطق السوق والمال. كما وأن الدورة الزمنية لهذه البيئة قد تمتد لآلاف بل ملايين السنين. وبذلك، فإنه إذا ما تم تسخير البيئة في سبيل أهداف رأس المال، فإنه يتم غلبة الإيقاع الزمني لدورة رأس المال والعقلية الربحية على العوامل الأخرى التي بنيت وتفاعلت عليها الطبيعة لملايين السنين. ولنأخذ مثالاً على أرض الواقع، فإن المياه الجوفية في باطن شبه الجزيرة العربية تكونت وتجمعت على مدى الملايين من السنوات. في المقابل، فقد تم استنزاف جزء كبير منها في غضون بضع سنوات في سبيل مشروع زراعة القمح الكارثي الذي طبق في السعودية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

وهكذا، أضحى بالإمكان تسليع البيئة وتحويلها إلى عقار، أكان ذلك في أراضيها أو بحارها، وتم معاملة هذه البيئة وكأنها ذات مخزون غير متناه ومتجدد للأبد، بالإمكان استهلاكه بشكل متواصل ومتصاعد دون أي اعتبارات لاستدامته في سبيل نمو قيمة الإنتاج. وهذه البيئة الهشة من صحار وبحار، والتي استطاعت الاستمرار ودعم حياة العديد من الكائنات الحية لملايين السنين، أصبحت في خطر حقيقي الآن في عصر النفط من نمط حياة بني البشر واستهلاكهم النهم في المنطقة، الذي يتوسع بشكل استثنائي كما رأينا في دول لخليج. فأراضي الصحراء يتم ابتلاعها لبناء مدن آخذة في التوسع، وحتى البحار وما يسكنها من كائنات لم تسلم من هذه العملية، بل بدأ ردمها بشكل موسع في مدن الحداثة النفطية، حتى وصلنا لمرحلة من الردم كان الهدف الوحيد منها هو بيع الأرض التي تم ردمها بأعلى سعر ممكن لأعلى مضارب عقاري،[54] ويبدو أنه لو اكتشفوا طريقة لتسليع الهواء، لما نجى من أنيابهم أيضاً. وهكذا، فإن النمو المتواصل في القيمة الاقتصادية في دول مجلس التعاون يعتمد على القدرة المتواصلة على إيجاد كميات اضافية من البيئة بالإمكان تسخيرها لمتطلبات نمو الإنتاج بشكل دوري.

وهذه المعدلات الاستثنائية على مستوى العالم من نمو السكان والاستهلاك تنعكس نتائجها على التغيرات في البيئة في دول الخليج، إذ أصبحت أجوائها تعتبر الأكثر تلوثاً في العالم  بحيث تواجدت خمس مدن خليجية (الجبيل والرياض والدمام في السعودية والمعامير ومدينة حمد في البحرين)[55] في قائمة أكثر عشرين مدينة تلوثاً في العالم. كما أصبحت المنطقة في صدارة تبعات التغيرات المناخية والاحتباس الحراري في العالم، بحيث تخشى تنبؤات العلماء أن درجات الحرارة ستصل إلى مستويات قاتلة تجعل العيش في المنطقة مستحيلاً خلال هذا القرن.[56] ونفس الأمر ينطبق على بحار الخليج، التي  كانت لآلاف السنين هي مصدر المعيشة الرئيسي لسكان المنطقة، حيث أضحت اليوم من أكثر البحار تلوثاً في العالم بفعل الزيت والملوثات المسكوبة فيها.[57] أما مخزونات المياه العذبة المتواجدة طبيعياً في باطن الأرض، والتي أخذت ملايين السنين لتتراكم، فقد تم استنزافها في غضون بضع عقود بشكل شبه كلي.[58] ويبدو أنه لو ولى عصر النفط، فإنه حتى نمط الحياة السابق ببساطته وقسوته لن يكون ممكناً، ذلك أن البيئة التي مكنت ذلك النمط من الحياة قد تم تدميرها بشكل شبه كلي. وعندها سيكون السؤال المحوري ليس هل نمط النمو الاقتصادي الحالي في الخليج مستداماً، بل هل من الممكن أصلاً للحياة البشرية أن تتواصل مستقبلاً في المنطقة؟[59]

عندما سُئل عبد الرحمن مُنيف عن سبب تسمية روايته الشهيرة بعنوان مدن الملح، قال:

"قصدت بمدن الملح تلك المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح.

"فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، فإن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه، تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى.

"وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر، سوف نكتشف أن هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال، وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل."

ويبقى السؤال المحوري هو: هل بإمكان أهل الخليج أن يتفادوا هذا السيناريو، سيناريو "مدن الملح"؟

 

 

لقراءة الجزء التالي من الاصدار

لتصفح الإصدار إلكترونيا

الاصدار الكامل PDF

 

 

 

 

[1] هذه الورقة مبنية اساساً على ما ورد في الفصل العاشر من كتاب المؤلف:

عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018).

[2] نركز حديثنا اساساً على المناطق من شبه الجزيرة العربية المجاورة للخليج، عوضا عن تلك المجاورة للبحر الأحمر.

[3] QDL, IOR/L/PS/20/C91/4, <http://www.qdl.qa/en/archive/81055/vdc_100023515712.0x000042>

[4] Ian J. Seccombe and Richard I. Lawless, Work Camps and Company Towns: Settlement Patterns and the Gulf Oil Industry (Occasional Papers Series, England: University of Durham, Centre for Middle Eastern and Islamic Studies, 1987) vii, 113. pp .3-5.

[5] راجع الفصل الثالث والثامن من كتاب: عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان.

[6] Matthew T. Huber, Lifeblood: oil, freedom, and the forces of capital (Univ Of Minnesota Press, 2013).

[7] Marianela Fader et al, "Spatial decoupling of agricultural production and consumption: quantifying dependences of countries on food imports due to domestic land and water constraints", IOP, 2013, <https://goo.gl/WuX76B>.

[8] “Outsourcing's third wave,” The Economist, 21 may 2009, <https://goo.gl/TWcmsW>.

[9] Laura Wellesley, “Choking trade: What the Qatar crisis tells us about food supply risk,” The New Arab, 27 June 2017, <https://goo.gl/vJT55D>.

[10] Cooke, Jason Arthur. The Fossil Fueled Metropolis: Los Angeles and the Emergence of Oil-Based Energy in North America, 1865–1930, Diss. University of Toronto (Canada), 2014.

[11] Karl Marx, Grundrisse, Notebook V – the Chapter on Capital.

[12] "المسافة التي تجيز الفطر و الأخذ بالرخص،" فتوى اسلام اون لاين، <https://goo.gl/W2gggh>.

[13] "إحصائيات وحقائق،" لجنة السلامة المرورية في المنطقة الشرقية للملكة العربية السعودية، <https://goo.gl/7yo1C3>.

[14] Matthew T. Huber, Lifeblood: oil, freedom, and the forces of capital (Univ Of Minnesota Press, 2013), p37.

[15] QDL, IOR/L/PS/12/3716, < https://www.qdl.qa/archive/81055/vdc_100037230923.0x00009b >.

[16] Albaqshi, Muhannad A., The social production of space: Kuwait's spatial history )USA: Illinois Institute of Technology, 2010).

[17] Mitchell, Timothy. Rule of experts: Egypt, techno-politics, modernity (USA: Univ of California Press, 2002).

[18] BNA, DEFE 60/153.

[19] BNA, FO 371/91297

[20] وزارة الكهرباء والماء بدولة الكويت، <https://goo.gl/dcga8u>.

[21] BNA, F 01016/514, Electrical Development in Kuwait, James Addison, 25th October 1956.

[22] وزارة الكهرباء والماء بدولة الكويت، <https://goo.gl/dcga8u>.

[23] BNA, FCO 8/1048.

[24]  وزارة الكهرباء والماء بدولة الكويت، <https://goo.gl/dcga8u>.

[25] الهيئة العامة للبيئة بدولة الكويت،  <http://beatona.net/CMS/index.php?option=com_content&view=article&id=856&lang=ar&Itemid=84>.

[26]  BNA, FO 371 174601.

[27] كمثال، قام المصمم الياباني الشهير Kenzo Tange بتصميم مطار الكويت وجامعة الخليج (جامعة البحرين حالياً)، وJorn Utzon مصمم مجلس النواب في الكويت.

[28] Mohammad Noor Al-Nabi, The history of land use and development in Bahrain (Bahrain: Information Affairs Authority, 2012).

[29] BNA, FO 371/174528.

[30] Lisa Barrington, Housing a Nation, M.Phil. thesis, Universitiy of Lund, 2013.

[31] BNA, POWE 63/1024, PET /1066/658/5.

[32] لاستعراض لتخطيط الرياض:

Menoret, Pascal. Joyriding in Riyadh: oil, urbanism, and road revolt. No. 45 (UK: Cambridge University Press, 2014).

[33] BNA, FCO 8/1488 تقرير ساما للعام 1388-89، الموازي لعام 1969.

[34] انظر الفصل الثامن من كتاب: عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان.

[35] Hesham Alshehabi, Omar., "Radical Transformations and Radical Contestations: Bahrain's Spatial-Demographic Revolution." Middle East Critique 23.1 (2014): 29-51.

[36] "نسبة تملك السعوديين لمساكنهم تفوق المعدلات في سويسرا وألمانيا واليابان وكوريا،" صحيفة الرياض، 30 اغسطس 2015، <https://goo.gl/xScMcF>.

[37]“فيديو: مؤتمر الكويت للإسكان،” يوتيوب، 10 مارس 2014، <https://goo.gl/qxwcMK>.

[38] Harvey, David. "Rebel cities" From the right to the city to the urban revolution )New York: Verso, 2012).

[39] Bahrain annual reports, pp.24-30.

[40] Bahrain annual reports, pp.24-30.

[41] Harvey, David. The new imperialism (USA: Oxford University Press, 2003).

[42] راجع الفصل الرابع من كتاب: عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان.

[43] Chaudhry, The price of wealth, pp.174-178.

[44] عمر هشام الشهابي، اقتلاع الجذور – المشاريع العقارية وتفاقم الخلل السكاني في مجلس التعاون لدول الخليج العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص 94.

[45] Alshehabi, O., "Migration, Urban Commodification and ‘the Right to the City’in the GCC," Transit States: Labour, Migration & Citizenship in the Gulf, London, Pluto Books (2015): 101-31.

[46] كمثال مشروع الروابي في فلسطين، ومشروع Marrakech Ranch في المغرب، ومشروع مدينة الطاقة في ليبيا، وغيرها العديد من المشاريع التي مولها ونفذتها في غالبيتها شركات بنوك ومطورين خليجيين.

[47] لتفصيل أكثر حول حالة البحرين أنظر:

AlShehabi, Omar Hesham, and Saleh Suroor., "Unpacking “Accumulation By Dispossession”,“Fictitious Commodification”, and “Fictitious Capital Formation”: Tracing the Dynamics of Bahrain's Land Reclamation," Antipode, vol. 48, issue 4, (2016), p 835-856.

[48] AlShehabi, Omar Hesham, and Saleh Suroor,. "Unpacking “Accumulation By Dispossession”,“Fictitious Commodification”, and “Fictitious Capital Formation”: Tracing the Dynamics of Bahrain's Land Reclamation." Antipode, vol. 48, issue 4, (2016), p 835-856.

[49] “Kuwait's GHC unveils Signature Series,” TradeArabia, 20 October 2012, <http://www.tradearabia.com/news/CONS_224281.html>.

[50] Herb, Michael, The wages of oil: Parliaments and economic development in Kuwait and the UAE (USA: Cornell University Press, 2014).

[51] Katie Paul and Andrew Torchia, “INTERVIEW-Riyadh's new financial hub struggles with ownership uncertainty,” CNBC, 25 April 2017, <https://goo.gl/FsKjtM>.

[52] Malm, Andreas, Fossil capital: The rise of steam power and the roots of global warming (London:  Books, 2016).

[53] راجع كتاب: عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان.

[54] AlShehabi, Omar Hesham, and Saleh Suroor, "Unpacking “Accumulation By Dispossession”,“Fictitious Commodification”, and “Fictitious Capital Formation”: Tracing the Dynamics of Bahrain's Land Reclamation." Antipode vol. 48, issue 4, (2016), p 835-856.

[55] “Pant by numbers: the cities with the most dangerous air – listed,” the Guardian, 13 Feb 2017, <https://goo.gl/493f55>.

[56] “Middle East May Be Uninhabitable This Century Due to Deadly Heat, Study Finds,” Science Alert, 5 Nov 2015, <https://goo.gl/iWJrJC>.  

[57] “ Persian Gulf Pollution Called World's Worst,” Chicago Tribune, 7 Feb 1993, <https://goo.gl/zX6JkM>.

[58] Nathan Halverson, “What California can learn from Saudi Arabia’s water mystery,” Reveal news, 22 April, 2015, <https://goo.gl/XKobXq>.

[59] تم تقديم بعض هذه الأفكار في مقالة سابقة:

Salem Saif, "Blade Runner in the Gulf," Jacobin, 2 November 2017, <https://jacobinmag.com/2017/11/gulf-states-oil-capital-ecological-disaster>.

 

 



الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها