صدر مؤخراً كتاب "تصدير الثروة واغتراب الانسان: تاريخ الخلل الانتاجي في دول الخليج العربية" للكاتب عمرهشام الشهابي، بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية.


بالامكان اقتناء الكتاب عبر المواقع التالية:
 
للاطلاع على التمهيد كاملا مع قائمة المحتويات انظر في المرفقات.


- مقتطف من تمهيد الكتاب:
 
 
تمهيد
 
 
يحاول هذا الكتاب الإجابة على السؤال التالي: ما هو شكل الإنتاج الاقتصادي في دول مجلس التعاون في عصر النفط، وما هي العلاقات الاجتماعية التي نمت حوله، وهل هو مستدام مستقبلاً؟
 
من المعلوم انه منذ ان اكتشف اول بئر في البحرين عام 1932، أصبح انتاج النفط هو المحرك الرئيسي للحياة الاقتصادية والاجتماعية في دول الخليج العربية. وبناء على غزارة ورخص تكلفة آبارها، أضحت المنطقة وصلة محورية في نظام الاقتصاد العالمي في مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث لا زالت هي المنتج الرئيسي للنفط المستهلك في العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، مما جعلها من الدول الأكثر دخلاً للفرد عالمياً. وقد تزامن ذلك مع نمو سكاني كان الأعلى دولياً، مرتكزاً أساساً على تدفق العمالة الوافدة الى المنطقة، حتى بات مجموع الوافدين يوازي اجمالي عدد المواطنين. كما انفردت دول المجلس من ناحية النظام السياسي المبني على الحكم المطلق، حيث يسيطر الحاكم وعائلته على أهم مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية، تحت مظلة أمنية-عسكرية تتكفل بها الدول الغربية الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. 
 
كيف لنا أن نفسر هذه الظواهر الاقتصادية-السياسية-الاجتماعية لدول مجلس التعاون، عبر سردية تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها، وتضعها ايضاً في سياق الاقتصاد العالمي، بدلاً من التعاطي معها كحالة شاذة كلياً؟ فعلى الرغم من مضي ما يقارب تسعون عاماً على اكتشاف النفط في المنطقة، وبروز خلال هذه الفترة انظمة اقتصادية أصبحت الأكبر والأهم في العالم العربي، الا انه من المفاجئ الندرة الحادة للدراسات التي تتناول تاريخ نشوء هذه الاقتصاديات بشكل منهجي ومعمق. وعلى الرغم من الرؤى التنموية الرسمية المتعددة، والتقارير الدورية التي تصدرها المؤسسات العالمية، الا ان الادبيات التي تتناول هيكلية اقتصاديات دول الخليج العربية بشكل جدي تبقى محدودة اجمالا، وفيما عدى بعض الاستثناءات، لا زالت ترتكز أساسا حول سرديات "الدولة الريعية" او "الاقتصاد النيوكلاسيكي"، وكلا من هاتين المقاربتين تعاني من عدة قصور تحد من قدرتها على تبيان وتفسير بنية المنطقة الاقتصادية. 
 
ولهذا القصور تبعات مصيرية تتعدى البعد البحثي، اذ ينعكس هذا التسطيح على السياسات العامة في المنطقة، حيث ينحصر اتخاذ القرار في قلة قليلة ترسم السياسات حسب اهوائها ومنفعتها الشخصية، وتعتمد بشكل شبه حصري على شركات استشارات غربية لها فهم محدود للمنطقة من وجهة نظر ومصالح معينة، ينتهي بها الحال الى إعادة تدوير آخر صرعاتها بين هذه الدول، فيتم القفز من "موضة" الى أخرى في الرؤى والمصطلحات، اكانت "الخصخصة" او "ريادة الأعمال" او "التنافسية" او التحول الى "مركز عالمي (Hub)". وهذه الفذلكات التي تتكرر بشكل دوري على مدى السنوات الماضية، بعيدة كل البعد عن مواجهة أساس الخلل الانتاجي الذي يتواصل في التفاقم، وتتزايد الاعتمادية على انتاج النفط وايراداته في تسيير الاقتصاد. وبدلاً من التعاطي مع أسس الخلل مباشرة، يتم الشروع في مشاريع قلما تداويه، بل تُعاظِم من المعضلة في كثير من الاحيان، حيث تُبتلع البحار والصحاري، وتُهدم الأحياء التاريخية، وترتفع إنفاقات وديون الدولة، في سبيل بناء مدن جديدة "عالمية" غير معلوم من سيسكنها، ووظائف متدنية الرواتب والإنتاجية والحقوق، وتسليع الصحة والتعليم، وغيرها من السياسات التي يتم بهرجتها وتقديمها بأنها تنمية وازدهار ورقي، بينما برأيي هي النقيض من ذلك تماماً. هذا بينما ينضب النفط، وتُستهلك الطبيعة، ويزداد التلوث، وتهدم وتبنى الضواحي من دون أي رأي لغالبية الأهالي، الذين مطلوب منهم ان يتأقلموا بل ويمجدوا هذه السياسات وصناعها. وقد دفعتني تجربتي الشخصية مع هذه الحالة العامة في دول المجلس، وقناعتي المتنامية بأن تفاقم أوجه الخلل المزمنة أصبح خطراً مصيرياً يحدق بأهالي المنطقة، ان أسطر ما لدي في هذا الكتاب، كوسيلة للتعبير عما يلوج في النفوس، والتشديد أننا لا زلنا هنا ونحاول. فالعين تبصر، واليد تكتب، والعقل ينقد، والقلب يسرد، وذلك أضعف الأيمان. 
 
بناء على ذلك، فإن الهدف الأول لهذا الكتاب هو تفصيل نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون في حقبة النفط، والتي بالإمكان حصرها في الفترة الممتدة من ثلاثينات القرن العشرين إلى لحظة كتابة هذه السطور في عام 2018، من منظور نقدي وتاريخي يتناول هذه البنية الاقتصادية من منطلق العلاقات الاجتماعية التي تشكلت حولها. ولكن هذا الهدف يجرنا إلى المسعى الآخر، وهو تقييم نمط النمو من ناحية متطلبات وهموم أهالي المنطقة، الذين يجمعهم وحدة المصير في التعاطي مع هذا النمط الإنتاجي. فبعد تبيان خصائص نمط نمو الإنتاج نود أن نسأل: هل هناك خلل فيه؟ وإذا كان كذلك كما يوحي عنوان هذه الدراسة، فما هو هذا الخلل؟  وبذلك يكون تبيان هذا الخلل في الانتاج هو المحور المهم الآخر لهذه الدراسة.  
 
إذن، في المحصلة ستكون الأسئلة الرئيسية التي توجه سردنا هي التالي: ما هو نمط نمو الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تمحورت حوله في دول الخليج في عصر النفط؟ وهل هذا النمط الإنتاجي مستدام، أم أن هناك خللاً إنتاجياً يعكر مستقبله؟ اذ كيف يقوم النمط الإنتاجي والنظام الاقتصادي المرتبط به في الخليج بإعادة إنتاج وتجديد نفسه بشكل متواصل ومنتظم؟ وإن لم يستطع هذا النمط الإنتاجي، لأي سبب من الأسباب، ضمان استمراريته وتجدده، وبان وجود الخلل وانه غير مستدام، فما العمل؟
 
هل لنا ان نصنف هذا الكتاب بأنه دراسة اقتصادية اساساً، ام نضعه في خانة الأعمال التاريخية، ام علوم الاجتماع، ام السياسة؟ لا اعلم، والحقيقة ان التصنيفات الصارمة لا تعنيني، بل حاولت ان اجعل جدلية الدراسة هي ما توجه دفة السرد أينما قادتني، في درب الإجابة على إشكالية الكتاب الرئيسية. وقد استعملت في سبيل ذلك الروايات التاريخية، والمقابلات الشخصية، ومصادر الأرشيف، والاحصائيات، ومخططات وخرائط المدن، والجرائد ومنصات التواصل الاجتماعي، والنظريات المجردة، وتحليلات النصوص والخطابات، واي منهجية وجدتها مفيدة لهذا المبتغى، من دون تقييد وحصر نفسي في زاوية او إطار معين. وقد تطلب مني هذا العمل ان أعرج على تاريخ اكتشاف النفط في شبه الجزيرة العربية، وتغلغل الاستعمار البريطاني في أراضيها، ونشوء الدولة الحديثة، وبروز خدمات الرفاه الاجتماعية، ومطالبات الحركات السياسية التي نُظمت بين مواطنيها، ونشأة نظام الكفالة وشبكات الهجرة التي تشكلت حوله، ونمط بناء المدن الحديثة في المنطقة، واستملاك مواد الطبيعة واستغلالها من أراض وبحار، على سبيل المثال لا الحصر من مواضيع وجدت انه من الضروري ان اتطرق لها ان اردت الإجابة بشكل وافٍ على السؤال الذي بدأنا منه.  وقد حاولت مقاربة كل من هذه المحاور من منظور مختلف نقدي، يتفاعل مع ويتجاوز السرديات المتداولة عامةً. ولذلك، فآمل ان يجد الملم بالاقتصاد، والتاريخ، وادبيات السياسة والدولة، وعلوم الاجتماع، ودراسات العمران والمدن، والقارئ المهتم بدول الخليج العربية عموماً، كل منهم ما يثير انتباهه بين دفتي هذا الكتاب. وقد طمحت خلال كتابته ان اعتمد قدر الإمكان على أسلوب سردي متيسر للقارئ غير المختص أيا كانت اهتماماته وتوجهاته، من دون الاخلال بالمحتوى والمعاني المقصودة.


الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها